رأي

فيلسوف تاريخ المغرب وبوادر إقصاء العلماء

الدكتور الحسن الياز استاذ التعليم العالي متقاعد جامعة ابن زهر أكادير

في خواطر الصباح حجرة في العنق- وهي يوميات للمؤرخ عبد الله العروي من سنة 1982 إلى سنة 1999- ومن ذاكرة يوم الاثنين 27 فبراير ،1984 كتب فقرة صغيرة تحمل أكثر من دلالة رغم أن الشطر الأخير منها مفتوح على أكثر من تأويل، وإن كانت الحقيقة الكبرى التي تلمح إليها غير خافية.
والفقرة هي كالأتي:
” قال أحد أعضاء الديوان الملكي: عبثا تعيين ممثلين عن المجالس العلمية في عدة لجان…(فراغ في الأصل) صم بكم يسمعون ولا يعون.
لعب طويلا ورقة التقليد، واليوم يحترف بها. ليس أول من أخطأ في هذا الباب، ولن يكون آخرهم.”
لا تخفى أهمية هذا النص لاعتبارات كثيرة منها:
1-تعلقه بمؤسسة محورية في الشأن الديني والمشهد السياسي والفضاء الفكري ببلادنا.
2-صدوره عن مؤرخ معاصر اكتسب كثيرا من المصداقية في الدرس المعاصر لتاريخ المغرب، رغم أن خلفياته الإيديولوجية وأدواته المنهجية ليست كلها محل تسليم ونجاعة.
3-إلمام العروي بأدوار مؤسسة العلماء في تاريخ المغرب من حيث تداول السلطة، والحفاظ على البيعة الشرعية، وحصانة التدين، وصياغة الحياة الفكرية، وتفعيل القيم السلوكية، وتقويم المسارات والاختيارات من خلال النصائح السلطانية والحركات الإصلاحية، كما يتجلى مثلا في كتابه عن أصول الوطنية المغربية المترجم من الفرنسية إلى العربية.
4-علاقة النص بقوة سياسية فاعلة، هي حكومة الظل التي ظلت باستمرار تؤثر بقوة إيجابا وسلبا في بوصلة التدبير العام، وليس هناك ما يمنع في فقه السياسة الشرعية من وجود مثل هذه القوة ذات الأدوار الاستشارية، وخاصة إذا قننت شروط التأهيل لمكوناتها و صلاحياتها واختصاصاتها في الوثيقة الدستورية، ترجيحا لمصلحة الكفاءة والأمانة، ودرءا لمفسدة الاستبداد الذي لا تخفى نتائجه وأخطاره وآثاره في سقوط الدول وانهيار الحضارات.
وهنا تتدخل هذه القوة الخلفية في التوجيه والتحكم في مكون سياسي وديني آخر هو مؤسسة العلماء. (انظر في استعمال مصطلح حكومة الظل، وتزايد دورها في الشأن العام الوطني، رغم الافتقاد إلى الإطار القانوني الدستوري: الدكتور محمد شقير: مستشارو الملك من ظل الحكم إلى ظل الحكومة. افريقيا الشرق، 2023، ص 163 وما بعدها.)
5-يذكر النص بحدود الصلاحيات التي أعطيت للمجالس العلمية في كثير من الهيئات ذات الطبيعة الاستشارية غالباـ والتقريرية نادرا. ( انظر مثلا عن المؤسسات والمجالس والهيئات الوطنية التي أعطى التشريع للمجلس العلمي الأعلى التمثيلية المحدودة فيها عند الدكتور محمد بنيحي: مؤسسات المملكة المغربية تنظيمها، اختصاصاتها، وسيرها. ضمن منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 39، ط2، 2017.)
وإذا كان النص يتعلق بمرحلة سابقة عن صدور دسنور 2011، إلا أنه يدل على أن مؤسسة العلماء كانت باستمرار موضع اهتمام بمشاركتها في إبداء رأي الدين قي الاختيارات المستجدة، خاصة باستحضار تلك الأدوار التي كانت لها باستمرار في تاريخ المغرب، وتلك الهيبة التي شكلتها رابطة علماء المغرب من خلال مؤتمراتها الدورية وتوصياتها الختامية، وصحافتها المكتوبة، واتصالاتها المباشرة عند الضرورة بأصحاب القرار والتدبير.
وكما هو معلوم فإن مقتضى الانسجام بين التقنين الجديد لمؤسسة العلماء مع السوابق التاريخية والمرجعية الدينية للتشريع الوطني أن يكون لهذه الهيئة تمثيلية قوية في السلطة التشريعية باختصاصات تقريرية ورقابية واسعة مما يقتضيه النص في الوثيقة الدستورية على أن دين الدولة هو الإسلام، ومكانة الإسلام في النظام العام المغربي. ( انظر مثلا: الدكتور محمد الكشبور، الإسلام والنظام العام في القانون المغربي، ضمن كتاب القانون المغربي في مطلع القرن الحادي والعشرين، ط 1، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2017، 1/ 25 وما بعدها.)
6-يثير النص التساؤل عن ذلك الصمت الموصوف بالصم والبكم، هل مرده دائما إلى عدم الكفاءة واستيعاب النوازل المستجدة والمحتاجة أحيانا إلى تكييف ونظر أصولي في المناط والتعليل والترجيح بين المصالح والمفاسد. أم هو أحيانا تحفظ وتخلص من تحمل مسؤولية تشريع الحرام أو تحريم الواجب.
وللتذكير أشير إلى ما ورد في سيرة المرحوم محمد بن الحسن الحجوي، رغم أنه عالم ومفكر مخزني مارس مناصب إدارية ووزارية، ولكنه اعتذر عن حضور مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906– الذي مهد لتوقيع معاهدة الحماية سنة 1912- لما دعي إليه، وكان عذره عدم معرفة اللغة الأجنبية. وهناك من فسر اعتذاره بغير ذلك. (انظر آسية بنعدادة: الفكر الإصلاحي في عهد الحماية، محمد بن الحسن الحجوي نموذجا)ط1، المركز الثقافي العربي، 2003 ص 77.)
7- لا ننفي أن ازدواجية المرجعية في التشريع الوطني، بما في ذلك المؤسسات الدستورية، (انظر مثلا: الدكتور محمد ضريف، مجال المشروعية بين حقلي التقليد والحداثة، ضمن كتابه: النسق السياسي المغربي المعاصر، مقاربة سوسيو سياسية ط افريقيا الشرق، 1991، ص 182-186.) يقتضي تكوينا مزدوجا لدى الفاعلين المسهمين في التقنين للشأن العام، بما في ذلك العلماء أنفسهم، رغم اقتصار دورهم على الاستشارة الفقهية، في غياب منح صلاحيات واسعة في التشريع والرقابة على العمل التشريعي.
وبالنظر إلى واقع مناهج التكوين والتأطير في المؤسسات التي يتخرج منها العلماء عادة فإن هذا الأمر مما يحتاج للتأمل وإعادة النظر، رغم وعي كثير من رواد تجديد المناهج بهذا الأمر واقتراح وحدات بيداغوجية وحقول معرفية ضرورية لتكوين المجتهد المعاصر، مما دفع البعض إلى اقتراح مؤسسات نوعية جديدة لتخريج العلماء بعد ملاحظة ما يمكن أن يوجه إلى مناهج التكوين والبحث العلمي في المؤسسات ذات الاختصاص. ( انظر مثلا: الدكتور عبد الرحمن الشعيري منظور. النخبة الدينية في النسق السياسي المغربي، العلماء وأفق المساهمة في التحول نحو الديمقراطية، افريقيا الشرق، 2022، ص 401 وما بعدها. والحسن الباز، مستقبل الدراسات الإسلامية في التعليم العالي بين تواصل العلوم وحاجات المحيط، ندوة تفعيل الدور المتجدد لمؤسسات التعليم العالي والجامعي في إعداد المتخصصين في الإطار الإسلامي، كلية الآداب، جامعة ابن زهر، أكَادير، بتعاون مع الإيسيسكو والمعهد العالمي للفكر الإسلامي واتحاد جامعات العالم الإسلامي، 9-10 أبريل 2001. منشور في: مجلة الجامعة، اتحاد جامعات العالم الإسلامي، العدد الثالث، 1423هـ-2002م.)
ونظرا لأن الحيز المتاح لا يسمح بتفصيل قضايا ذات الصلة بالموضوع، فلعله تتاح فرص قادمة لتناول ما يتبادر إلى الذهن من تساؤلات، مثل تأهيل كفاءات التقنين الوطني ومتطلباته، والإكراهات الناجمة عن ازدواجية المرجعية في التشريع الطني ومقتضيات التكييف والملاءمة. وغير ذلك من القضايا التي تشغل النخب ذات الاختصاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى