
يتأسس الموقف الحداثي من الأسرة على مجموعة مرجعيات فكرية، تعمل هذه المرجعيات بميكانيزم تفكيك الأواصر وفصل عناصر الربط والتماسك، ليس بين أفراد الأسرة فحسب، بل في ذات كل فرد من أفرادها قبل ذلك.. المخاطَب هو الفرد نهاية، فيجب إذن استهداف المؤسسة التي تحميه وتحفظ هويته وذاكرته، أي الأسرة.. هكذا يشتغل المنطق الحداثي في موضوع الأسرة، فوجب إخضاع مرجعياته الفكرية للنقد حتى تظهر عيوبه للناس..
-مرجعية الشهوانية: تؤسس لهذه المرجعية فلسفات، كتلك التي أطلقها جيريمي بنتام وويليام رايش وميشيل فوكو.. كلها مرجعيات تحرر الجنس من قيوده وتسمح به، بل وتفضله، خارج إطاره المشروع، أي الأسرة المنظمة.. تتعدد مداخلهم لذلك.. المرجعية سوسيو-قانونية عند بنتام، اشتراكية عند رايش، بنيوية سوسيولوجية عند فوكو.. لكنهم يلتقون جميعا في الغاية، الجنس بلا حدود، تحرير الشهوة الجنسية، إنسان مادي شهواني في لحظة يسميها المسيري “علمانية نماذيجية شاملة” (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان).
-مرجعية النسوية: تنبني هذه المرجعية على منزع إنساني منحرف.. انتقلت فيه الحركة الإنسية من “التمركز حول الإنسان” إلى “التمركز حول الأنثى”.. بموجب ذلك تتحول الأنثى إلى شبه إله في ذاتها، رافضة الانخراط في مشروع أكبر هو الأسرة، نتقاسم فيه الوجود مع زوجها وأبنائها.. ليس هذا المنحى بخروج عن الأسرة فحسب، بل عن الوجود الإنساني ككل، شذوذ من نوع آخر، عن مبدإ كوني هو “الزوجية”، وعن حاجة الإنسان إلى الاجتماع المنظم.. وتلك دعوة اشتهرت بها الفلسفة الوجودية النسوية لسيمون دي بوفوار، وتلقفتها نوال السعداوي وغيرها من نسوانيات الوطن العربي..
-مرجعية الاستلاب: ف”المغلوب دائما ما يقلد ثقافة الغالب”.. هكذا قال ابن خلدون في مقدمته. فلما كان الغرب غالبا سائدا في العالم باقتصاده وسياسته الاستعمارية، نزع البعض إلى طي صفحة التفاوت بيننا وبينه بنموذجه في الحداثة.. ليست حداثة الغرب بالثابت الذي يجب البناء عليه، فقد تطورت حتى بلغت موجتها الأكثر اضطرابا وفوضوية، أي ما بعد الحداثة.. فاستحالت الحداثة في أعين المستلبين، بعدما كانت تعني في جوهرها التصنيع والديمقراطية والعلم والتقنية، قيما وأفكارا ما بعد حداثية، أو “حداثوية”، تؤثر في مختلف مجالات الحياة بما فيها الأسرة.. وعوض أن نستمد نموذج الغرب في تنمية اقتصاد الأسرة ووضعها الاجتماعي وتعليمها وتنظيمها تحت سلطة الدولة، أخذ البعض يستمد نموذجه في مخاطبة أسره فردانيا وماديا وشهوانيا..
-مرجعية الحرية: تلك الحرية المستمدة من ليبرالية جون ستيوارت ميل، وهو يعبر عن موجة جد متقدمة من الليبرالية.. ليبرالية فوضوية في شرطها، أي بعد أن كانت الدولة قد استتبت بمختلف مؤسساتها.. نقل هذه الدعوة لمجتمعات تقليدية، الدولة فيها لم تستتب بالقدر المطلوب والكافي، وحيث التعويل كل التعويل على الأسرة في التنظيم والتثقيف الأولي وتربية النشء.. هذا النقل لا يحل مشاكلنا وإنما يفاقمها، يضيف إلى التخلف مشاكل التفكك والتهتك والانحلال وفقدان “عناصر الربط” والمناعة والهوية..
-مرجعية المادية: لا يدعو إلى التخلص من الماديات عاقل، فهي من الحياة وبها تقوم الحياة، بل إن العبادة جعلت من مقاصد المعاش.. فلا صلاة ولا صوم لمن لا طاقة له، فوجب الأكل والشرب حتى تتحقق الشعيرة في جزئيتها، وحتى تتحقق العبادة بمفهومها العام.. كذلك النشاط الجنسي، يجوز ويجب ويستحب حسب الحال، كما يحرم ويكون مكروها في أحوال أخرى.. لكن ليس خارج إطاره الشرعي، وإنما داخله وجوبا يتحول خارجه إلى منكر تنكره الشريعة وتتوعد أصحابه (“ولا تقربوا الزنا، إنه كان فاحشة وساء سبيلا”).. هذا المنطق المتوازن ترفضه الثقافة المادية في الغرب، لأن الإنسان بالنسبة إليها لا عليه عمارة ولا عليه استخلاف، وإنما هو “كائن زمني في المكان”، يأكل ويشرب ويسكن ويلبس ويأتي شهوته الجنسية.. في هذا المعنى تضيع أهم المعاني الروحية في الأسرة، وتصبح الوشائج ميكانيكية لا تشجع على تحمل مسؤولية “الرباط المقدس” بتعبير سيد قطب في “السلام العالمي والإسلام” (الزواج).. فلا معنى لصبر الأم على الحمل والوضع والرضاع، ولا معنى لتضحية الأب وقوامته، ولا معنى لبر الوالدين.. فأي أسرة هذه التي تصبح كالشركة؟! وحٓدة رأسمالية في زمن الرأسمال..
-مرجعية الأنانية: وهي مدخل أساسي لتفكيك الأسرة، يخاطب فيها كل فرد من أفراد الأسرة على حدة، بهدف تقوية ميولاته الفردانية وفصله عن وسطه العائلي والأسري.. وهكذا يتحول العيش في الأسرة إلى مسألة عرضية، يعيش فيها الفرد مغتربا عن روابط العائلة، يبحث عن نفسه لا عن الأسرة، عن المقابل المادي الذاتي الذي يربطه بها، لا عن الواجب الذي يؤديه للارتباط بها.. وقد انتشرت مراجع وكتب في الوطن العربي تكرس هذا المنزع في الفرد العربي المسلم، تنطلق من فكرة “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” (توماس هوبز صاحب “اللوفيتان”) لتقول إن “الأنانية متأصلة في الإنسان”.. وبغض النظر عن مدى علمية هذا الاستنتاج، فإن تشبع النفس به يقضي على محاضن الاجتماع وينخرها من الداخل، أسرة كانت أو قبيلة أو زاوية أو حزبا أو حركة أو دولة.. الأنانية خطر داهم فكك العلاقات بين الأسر كمرحلة أولى، لتصبح الأسر جزرا لا تربطها روابط.. وقد انتقلت اليوم لتفكيك “عناصر الوصل” بين أفراد الأسرة الواحدة..
على نخب الوطن العربي عامة، وعلى النخب المغربية خاصة، أن تحذر هذا الذي أشرنا إليه أعلاه.. ويجب أن يستصحبه كل تعديل لمدونة الأسرة، فهذا القانون أمانة ومسؤولية ليس على تقدم المجتمع المغربي فحسب، بل قبل ذلك على حفظ تماسكه ونسله، ومن خلالهما دولته وسياسته.. استهداف الأسرة استهداف للدولة، وهذا ما يجب أن يعلمه الجميع جيدا!