قراءة في كتاب صدر ” من تساؤلات القارئ المتدبر/ سورة الفاتحة ” الجزء الثاني
بقلم الأستاذ عبد الرحمان الخرشي

ومما عمق فضولنا العلمي حول هذه السورة المباركة أن نذكر إن ما عمق اشتغال بعض الكتاب على موضوع التدبر كامن في تنوع طرح التساؤلات حول النص القرآني وتدرجها في مستويات تنوعاً يمكننا من أن نعمق بدلالتها فهم النص القرآني جملة وتفصيلاً، حيث الحصيلة تكون أفيد، إن تنويع طرح التساؤلات يتيح أمامنا المجال لتمرير معلومات في سياقات تساعد على تعميق الفهم، بل إن ذلك يحفزنا على التأمل أكثر في أجزاء السورة بهدف تثبيت معلومة ما وصلنا إليها عن طريق البحث المعمق في كتب التفسير، ناهيك عن التدبر على سبيل طرح أسئلة مفيدة بأدوات أخرى؛ فمثلا سورة الفاتحة ترد مرتبطة بالاستعادة قال تعالى:( إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )(2)؛ وفي النص المثبت في الصفحة( 19 )- وهي كذلك في المصحف الشريف – جاءت بعد البسملة مما يطرح علينا أسئلة حول هذين الملمحين، ومن نافلة ما يقودنا إلى تعميق الفهم في سورة الفاتحة السؤال عن علاقة الفاتحة بما بعدها وقبلها في النزول، وعن مكان تثبيتها في كتاب الله العزيز استحضارا للحظة مهمة يوم أن تم جمع القرآن الكريم، بل من حقنا أن نسأل: لم تم حضور البسملة بعضاً من سورة الفاتحة مرقماً بالرقم(1)، وتم تجاهلها في طرح التساؤل عنها وعن سر غيابها في التأويل(3)؟!… فالتوفيق في طرح السؤال/التساؤلات وتنويعه/وتنويعها محور مهم جداً لتدبر القرآن لغاية طاعة الحق سبحانه وتعالى عن طريق التأمل بما يفيدنا من معلومات جديدة أساسها التدبر؛ وهذا يلزمنا بالبحث عن دلالة هذا الكبريت الأحمر !
ب – في دلالة مفهوم التدبر:
.
مما جاء عند غير واحد من علماء اللغة، وفي” مدارج السالكين ” لشمس الدين ابن قيم الجوزية( رحمه الله )( 4 ): » التدبر لغة: مصدر مشتق من مادة( د ب ر )، ودبر الشيء خلاف قُبُله، وهو: النظر في عاقبة الأمر، والتفكر فيه. وفي الاصطلاح: هو النُّظرُ في دبر الأُمُورِ؛ أي عواقبها، وهُوَ قريبٌ من التَّفَكُّرِ، إلا أنَّ التَّفكرُ تصرف القلبِ بالنظر في الدليل، والتَّدبرُ تصرفُهُ بالنظر في العواقبِ « ( 1 / 449 )؛ جاء في” المعجم الوسيط – ابراهيم أنيس – قوله:”( تدبر الأمر ): أعاد النظر فيه مرة بعد أخرى ليستيقن محتواه، وهو غير التفسير والاستنباط…” وقال محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري( رحمه الله )[ ت 538 هـ ]: تدبر الأمر: تأمله والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته، وهو ناتج عن إطالة النظر في كتاب الله، والاستئناس باجتهادات أهل العلم وبخاصة أصحاب نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وتلاميذهم لما في أقوالهم من إشارات بليغة، هي ثمرة تأمل، وصورة من صور التدبر المرغب في ثمرته؛ وبذلك كان تدبر السلف الصالح هو التدبر الأنقى والأنفع لخشوع القلب، والاتعاظ وأخذ العبرة من نصوص القرآن الكريم جملة وتفصيلا عن طريق تأمله، وهو الأسلم من الوقوع في الزلل؛ وذلك وفق الطرق العلمية الصحيحة بعيدا عن جرأة منهجية تسلح بها بعض من ركبوا موجة” التدبر المذهبي المنحرف “وهم لا يعرفون مبادئ علم أصول الفقه- أو يغالون في ركوب تفريعاته لغاية تمرير سموم مذاهبهم المنحرفة – الذي يُعنى بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيّد، والعام والخاص، فضلاً عن القصور في علم القراءات، وعلوم اللغة العربية التي قد تكون هي المرجح الأقوى في بعض المواضع.. والتدبر وارد في نصوص عدة من الوحيين؛ قال تعالى:” كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ “(5) وقد استعمل الكاتب سيدي سفيان أبو زيد هذا المفهوم بما استدعى حرصه على التفكر في معاني هذه السورة العظيمة عن طريق اعتماد التبصر، والإحاطة، والتفهم، والتدقيق، والتحقيق، ولاستنباط، والتمحيص… والتدبر الذي قصد في عنوان كتابه وفي ثناياه: صفة في قارئ معلوم تلازمه، لذلك جاء التعبير عن القارئ بالتعريف كما لفظ التدبر( القارئ المتدبر )؛ أي القارئ الملسوع بلدغة التساؤلات العميقة في كتاب الله جملة وتفصيلا؛ تفصيلا كما هو شأنه مع سورة الفاتحة اليوم لا الأسئلة ما دامت الغاية في الوصول إلى المعنى المتواري والمحجوب بقلة الفهم، لذلك جعلها وكده وغايته القصوى قبل القراءة حتى يطفو بعضها ويغيب الآخر !
.
جـ – عتبة الإهداء:
.
استهل الكاتب كتابه بإهداء متعدد في مكوناته ودال بدلالات متعددة وتختلف؛ فقد أهدى- ويا خير ما فعل ولمن أهدى – كتابه إلى: رب عظيم أكرمه بعقل وقلب! ونبي لا ينطق عن الهوى. وشيخ معلم نزلت به صرعة الموت في أرض يمن الخير؛ فضيلة العلامة( حسن الأهدل )( رحمه الله ). وأبوين كريمين زرعا- حفظهما الله بما حفظ به الذكر الحكيم – ورعيا نبتة طيبة كانت ثمرتها اليوم دوحة العلم ووعاءه: ابنهما سفيان. ولجميع من أسهموا في نمو فاكهة التدبر في عملهم التفسيري للقرآن الكريم؛ وهم اليوم خلق كثير وملحوظ على ساحة ما ينشر من القراءات القرآنية. وزمرة من القراء ساروا على نهج تدبر القرآن الكريم.
إذن من الواضح إن إهداء هذا الكتاب ورد مستوفياً لجميع زوايا النظر التي يمكن أن يفكر فيها باحث، وهي تدعونا إلى الوصول إلى نتيجة نفسية واجتماعية مدى تصالح الكاتب مع نفسه ومع محيطه، فهو لم يغفل أي عنصر من عناصر التواصل بينه وبين محيطه الروحي والتربوي والعائلي والفكري والاجتماعي…
.
د – عتبة الشكر والعرفان:
.
تحت عنوان” شكر وعرفان ” شكر الكاتب شيخين جليلين قدما لهذا الكتاب في تقديم خاص؛ الواحد منهما منفصل عن الآخر الغاية منهما التحفيز على قراءته، والإشادة بمضامينه وبصاحبه، والكشف عن بعض ما يثير الانتباه فيه:
.
التقديم الأول:
.
دبجه صاحب كتاب” لقاح العقول من قضايا مفتاح الوصول ” فضيلة الشيخ إبراهيم إب بن حرمة عبد الجليل العلوي الشنقيطي الذي نوه بالكاتب وما أنجز في بحثه هذا؛ فهو عنده »الفتى النبيه ذو الفهم الصائب والعقل الراجح الدكتور المتميز سفيان أبو زيد «، كما نوه بالكتاب بعبارات قوية ودالة؛ فهو: »تأليف لطيف سماه من تساؤلات القارئ المتدبر سورة الفاتحة، ورد فيه على حياض السبع المثاني، فكان فيهما أولاً وليس بثان، وجمع فيه بين حسن الابتداع وسنة الاتباع وأمتع فيه أي إمتاع وأبرز من بدائع الحقائق نكتاً وعلماً»(!)
.
التقديم الثاني:
.
الشيخ أ.د. وصفي عاشور أبو زيد أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية الذي وصف الكتاب بالعظيم، كما حدد وظيفته في كونه غاية ووسيلة للعمل بعد فهم كتاب الله مما استدعى ستة وعشرين سؤالا عمقت البحث عند المؤلف الذي أوجد لها” إجابات جيدة وشافية مستعينا في ذلك بمراجع التفسير ومصادره… ” تلك التي لم تغن المؤلف عن تصريف ثقافته العلمية وطاقته الفكرية والذهنية وأسلوبه المنساب انسياب نور القرآن العظيم من روحه الشفافة. وختم فضيلة الشيخ هذه المقدمة منوها بالمؤلف وبجهوده الأدبية والدعوية والعلمية، بل رآه أنموذجا موفقا لأن يسير الشباب بعامة على نهجه.
.
مقدمة الكاتب لكتابه:
.
عقب تينك المقدمتين بسط المؤلف مقدمته الخاصة بكتابه دون سابق إشعار أو عنوان يشعر بذلك، ثم افتتحها بالحمد والصلاة على النبي المصطفى، فالإشادة بتأمل كتاب الله وفق ضوابط الكَلِم ومكونات العبارة القرآنية تلك التي وجدها تستدعي التدبر الذي ركبه الإحساس به وبأدواته -(6) – وثمراته منذ اشتداد عز الطلب؛ وقد تم للمؤلف أول تمرين لتصريف هذا النهج في أوجز تفسير طبقت شهرته الآفاق تفسير السعدي( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ) وتفسير الإمام ابن كثير وغيرهما، وعزز هذا الاطلاع بالدراسة عن طريق السفر والترحال، وبخاصة في دولتي اليمن السعيد وأقدم مواقع مهد الحضارة البشرية سوريا اللتين أهلتاه لإلقاء بعض الدروس في المسجد بدولة اليمن السعيد، أوقدت في نفسه شرارة التلذذ بالتشجيع، وبذرت في ذهنه بذرة الاستعداد- دائما – للعطاء وهيأته للاغتراف من معين النبوغ؛ ناهيك عما سيدفعه إلى الاستفادة من ثمرات عالم التواصل بنوع من التوسع استفاد منه كثيراً.
.
هـ – تساؤلات لا أسئلة:
.
المثير في عنوان الكتاب أن كاتبه استعمل لفظ” تساؤلات ” بدل لفظ” أسئلة “؛ كتبها مرقمة من الرقم 1 إلى الرقم 26 في صورة تساؤل فعلاً، فجواب؛ جواب يطول أحياناً ويقصر في بعض الأحيان، وتوزعت هذه التساؤلات عبر صفحات الكتاب، اقتضى كل تساؤل من الكاتب أن يعقبه بجواب، وبمزيد من البحث والشرح والتوضيح والإفهام، أحال بعضها على أقوال علماء اختلفت أزمانهم ما بين قدماء ومحدثين ومعاصرين، وعلى آي وسور القرآن الكريم بما ينسجم ويتسق مع النص القرآني المطروح للمعالجة بالقراءة المناسبة من وجهة نظر الكاتب في حينه، بل وعلى كم هائل من كتب التفسير، وبعض معاجم اللغة، وغالباً ما ختم المؤلف بتعليقاته التي أوردها بصيغة( قلت )… إن هذه التساؤلات وجدتها في أغلبها تحيل على البحث المفتوح على ورود المعلومات والتفريعات والتحليل؛ سخرها الكاتب في خدمة تعميق تفسير النص وشرحه.
.
و – ملحوظات:
.
الملاحظة أو الملحوظة تعني أن الكاتب يريد أن يوضح ما يقتضي لفت الانتباه إلى موضوع ما أو التركيز عليه وهي مشتقة من الفعل الرباعي ( لاحظ )، واسم الفاعل منه( مُلاحِظ )، واسم المفعول( مُلاحَظ ) … تحت عنوان” ملحوظات ” خاطب المؤلف قارئه المعلوم بلطف، وأبان له في البدء عن معطيات قصوى وذات أهمية اعتمدها في نسج خيوط مادة كتابه؛ من قبيل إبراز منهجه في تناول الموضوع عن طريق »البحث والتنقيب والتنسيق بين كلام أئمة التفسير واختيار الأجوبة العلمية المقنعة… «(7)، كما نص فيها على أصول مادته العلمية التفسيرية وهو يتدبر سورة الفاتحة عبر جملة من التساؤلات المعتمدة؛ يقول عنها إنني: » جمعتها من خلال قراءاتي التفسيرية لعشرات كتب التفسير من شتى المدارس والمذاهب التفسيرية « (8). وذكر أن عمله في هذا التأليف يقتصر بخاصة على دور »البحث والتنقيب والتنسيق بين كلام أئمة التفسير واختيار الأجوبة العلمية المقنعة «(9) أرفقها ببعض التدخلات الشخصية بمعيار( قلت )، ونص على تبرئة ذمته من أقوال بعض من استعمل أقوالهم دون أن ينسبها لهم، فهو قصد إلى القول يعزز به الرأي حتى يبدو منسجما ومتسقاً في تدبر النص ليس إلا…
هنا أحب أن أتصالح مع نفسي لأذكر الكاتب ببعض فضولي العلمي وبالضبط في هذه الجزئية التي لا أعتبرها كذلك، فهو وإن استساغ التلفيق في أمر صرح أنه استدعى مدارس تختلف ومذاهب تختلف فربما وجد من يخالفه هنا الرأي والفعل، ولعل هذا الاختيار يضعف من حيث القيمة العلمية ويبطل بالضرورة وبخاصة إذا التزم الباحث فيه بالصرامة وه يتمسك بأدوات البحث وصرامة التوثيق. ومع ذلك نترك لكم الحرية في تبرير ضرورة اختيار ما اخترتموه من استساغة التلفيق في هذا المنهج المركب والمحمل بما أشيم أنه لا يفي بالغرض المطلوب من حيث النتائج.
إن ما يشوش علي هو اعتماد المؤلف شتى” المدارس “و” المذاهب التفسيرية “، فهذه الأخيرة بهذا العموم يبدو وكأن المؤلف يتجاوز بها ما نرتاح له؛ أعني المذاهب: الأصولي، واللغوي، والتاريخي، والبلاغي، والعقلي، وغيرها. إلى ما لا نرتاح لنتائجه؛ وهو من المعلوم بالضرورة، ولهذا وجب الاحتياط !
.
ز – أسئلة حول سورة الفاتحة:
.
هنا وجد الكاتب نفسه في توضيح غايته من التدبر؛ تدبر سورة الفاتحة في هذا الكتاب عن طريق ما عن له من الأسئلة المطروقة فيما طرحه بعض المشتغلين بالتفسير عبر العصور وفي كتب عدة، وبعضها استنبطه مما استدعاه التأمل عنده.
ح – شروع المؤلف في وضع سورة الفاتحة على مشرحة التشريح العلمي آية تلو آية، أعقبها بتنزيل ووضع صورة منها في الصفحة( 19 ) كما هي بنفس الخط في( مصحف المدينة النبوية ) وتمت عنونتها بما دل عليها وسمها:( سورة الفاتحة )…
ـــــــــــــــ
(2) النحل ـ آية: 98.
(3) من المؤكد أن البسملة آية من القرآن الكريم وليست آية من كل سورة فيه، وأنها تتلى للفصل بين السور.
(4) توفي سنة 751 هجرية
(5) ص – آية: 29.
(6) لا حظت أنه تم الإلحاح على طرح السؤال بالأداة ىماذا؟.
(7) سفيان أبو زيد – من تساؤلات القارىء المتدبر/سورة الفاتحة. دار المقاصد.ط1-14444-2023.ص:16.
(8) نفسه.
………………… يتبع……..