
لن نتخلى عن متابعة وزير الأوقاف بخصوص تحقيقه المزعوم لكتاب “التشوف إلى رجال التصوف” لابن الزيات من جهة، وبخصوص مختلف ادعاءاته وتخريجاته وممارساته من جهة ثانية.
وما تحدثنا عنه في الحلقة الأولى من هذه المقالة، مجرد خطوة واضحة من خطوات كون وزيرنا في الأوقاف والشؤون الإسلامية، لا يفقه شيئين ولا يتجاوزهما “إنه مرة يخطئ، ومرة لا يصيب”! فحقق معناه: أقام الدليل على ما يدعيه، أو تأكد هل الأمر كما ينبغي أن يكون أو كما أعلن عنه، حيث إننا وجدنا أن المعنى الأخير هو الذي طبع ما اعتبره هو تحقيقا لكتاب في التصوف فريد من نوعه. والحال أن التحقيق العقلاني المنطقي المقبول، هو تقصي المعلومات والتثبت من صحتها، ثم إن التحقيق صورة من صور النقد. والنقد تناول موضوع محدد بالدرس والتحليل، والناقد من يعطي رأيه في عمل أدبي أو فني أو ديني، بحيث إنه يظهر العيوب والمحاسن، ويميز بين الجيد والرديء، أو بين الصحيح والسقيم.
وسوف أبرهن لكم أيتها السيدات والسادة المهمومات والمهمومين باحترام الدين كتابا وسنة، وهو ما لم يطبع تحقيق الوزير للكتاب، ولا طبع من استمر في امتداح رجاله ومحتويات ما نسب إليهم من أول الكتاب إلى خاتمته.
وحتى لا نخبط مثله خبط عشواء، نضع أمامكم أيها المستمعون الأكارم نموذجين، تربط بينهما علاقة: نقصد أبا شعيب بن سعيد الصنهاجي، والشيخ أبا يعزى يلنور بن ميمون.
فماذا عن الأول؟ إنه من أهل بلد أزمور، ومن أشياخ الثاني أبي يعزى. ويقال: إن أبا شعيب من الأبدال. والأبدال في المصطلحات الصوفية “هم سبعة رجال، يسافر أحدهم عن موضع ويترك فيه جسدا على صورته، بحيث لا يعرف أحد أنه فقد، وذلك معنى البدل لا غير”!
فتكون مرتبة الأبدال من هذا المنطلق، مرتبة عزيزة غالية، لا يدركها إلا سبعة أولياء، أتاهم الله القدرة على التمثل في صور غير صورهم الأصلية، فبمقدور البدل أن يكون مع الناس في بلده، وأن يكون بصورته الجسدية ذاتها مع آخرين في مكة أو في عرفات، على سبيل المثال! ففي الوقت الذي يؤم فيه المأمومين في المسجد لأداء صلاة العصر، تكون صورته الأخرى تطوف بالكعبة المشرفة!!!
وهذا الضلال المنسوب إلى من يسميهم الدكتور محمد الفايد بالكهنوتيين، لم يدرك مدلوله البدعي من يتولى عندنا تدبير الشأن الديني، مما يعني أن ما يعرفه عن الدين الحق محدود جدا من ناحية، وأن تحقيقه للكتاب الذي يزخر بألوان من هذا الضلال، هو ترويج علني صريح لما نهى الله ورسوله عنه من ناحية ثانية!!!
ومن جملة كرامات أبي شعيب الذي هو بدل، أنه “رأى يوما بقرة له، أهوت بفيها في فدان جاره، فجرى إليها وأدخل يده في فيها، فأخد منه النبات وأمر أن ترد لداره ويجمع لها الحشيش ولا تترك تخرج إلى المرعى ثلاثة أيام، وأن يتصدق بلبنها في تلك الأيام””!
وتساؤلاتنا هنا في غاية الوضوح، وفي الوقت ذاته في غاية البساطة: من هو أعلم بالدين، منظورا إلى حادثة البقرة التي تناولت عشب جار أبي شعيب صاحب البقرة؟ فهل أبو شعيب هذا أعلم بالدين أم ابن الزيات الراوي للحادثة؟ أم محقق كتابه أحمد التوفيق أعلم منهم بالدين. أم إنهم جميعهم جاهلون به؟
لا تستغربوا أيها المستمعون الأفاضل، لا تستغربوا إن أعلنت أمامكم بأنهم كلهم عن الدين الحقيقي بعيدون بعد السماء عن الأرض كما يقال! إنما لماذا؟ فالراوي قبل صاحب الحكاية قد روى ما يصح وصفه بالضلال المبين؟ والمحقق للكتاب مجرور مقبور في دائرة الطرقية الممقوتة التي لا تساوي غير المدثرين بدثار من البلادة والغرور والجهل والتجاهل؟
أولا: هل تسأل البقرة التي أهوت بفيها في فدان جار أبي شعيب لتناول بعض من العشب؟ يعني أنها تناولت في نظر صاحبها ما يعد عنده من المحرمات؟ والمحرم الذي تناولته ثانيا تحول إلى حليب، حرم أبو شعيب على نفسه وعلى أهله تناوله لثلاثة أيام؟ فكان أن أملت عليه نفسه أن يتصدق به؟ إنما، هل يجوز التصدق بما تأكد لدينا أنه من الحرام؟ أو لم يفرض فقه الدين على الرجل الذي هو ولي «بدل” كما تقدم، أن لا يتصدق بالحرام؟ وأن الحرام الذي تصدق به، أو ليس هو نتيجة العشب الذي تناولته بقرته في أرض جاره؟ أوليس الفقه الذي نعرفه نحن، هو أن يعتذر لجاره عما فعلته بقرته؟ وأن يقدم حليب الأيام الثلاثة لجاره إن صح أنه لا يريد تناول الحرام؟
ونظرا إلى مكانة البدل أبي شعيب، فلا بد أن له أتباعا أو مريدين، ومنهم أبو يعزى يلنور، الذي نسب إليه قوله في نفس كتاب “التشوف إلى رجال التصوف”: “ما لهؤلاء المنكرين لكرامات الأولياء؟ والله لو كنت قريبا من البحرلأريتهم المشي على الماء عيانا” (لماذا لا يريهم المشي على الماء في إحدى الوديان القريبة منه)؟؟؟
قال شاكر أبو علي مالك بن تامجورت: “تزوج صاحب من أصحاب أبي يعزى، فطلبت منه زوجته مملوكة (= خادمة)، ولم تكن عنده. فقال له أبو يعزى: “أنا أنوب مناب المملوكة. وكان أسودا لا شعر بوجهه، فتزيا بزي المملوكة، فأقام يخدمه وزوجته عاما كاملا، فيطحن ويعجن، ويخبز ويسقي الماء بالليل، ويتفرغ بالنهار للعبادة في المسجد. فلما كمل العام، قالت الزوجة لزوجها: ما رأيت كهذه المملوكة. تعمل بالليل جميع ما يعمل بالنهار، ولا تظهر بالنهار، فأعرض عنها وتغافل عن جوابها. فما زالت تسأله إلى أن قال لها: ما خدمك إلا أبو ونلكوط وليس مملوكة. فعلمت أنه أبو يعزى، فقالت: والله لا خدمني بعد هذا أبدا، ولأخدمن نفسي. فجعلت تخدم نفسها من حينئذ.
وحدثني غير واحد أن ذلك الصاحب الذي خدمه أبو يعزى على أنه مملوكة هو الشيخ أبو شعيب السارية، وأنه لما أخبر زوجته بخدمة أبي يعزى لها، دخل المسجد على أبي يعزى وهو يبتسم، فقال له أبو يعزى مالك تبتسم؟ فأخبره بما كان بينه وبين زوجته، فقال له أبو يعزى: ولم أخبرتها؟ فهلا تركتني أخدمكما كما كنت”؟؟؟
ونحن هنا أمام كذابين، وأمام مروجين لكذبهما. فأبو شعيب أفهم زوجته أن أبا يعزى خادمة، لا لأنه أسود الوجه، وإنما كذلك لكونه أمرد الوجه أو أملطه، إنه إذن كذاب وأبو يعزى كذاب مثله لنه تظاهر بكونه امرأة؟؟ والمزكيان لكذبهما شاكر أبو علي مالك بن تامجورت، والمحقق الوزير المدعي: أحمد التوفيق!
ويبدو أن الأربعة جميعهم يجهلون ما الذي يعنيه غض البصر، فكل ما يحرم النظر إليه يغض منه البصر، ومنه النظر إلى النساء على حقيقتهن أو في صورهن الثابتة والمتحركة، وفي القرآن الكريم قوله تعالى: “قد للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم”. وكذلك قوله: “وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن”؟ فهل الخادمة الخلوق لزوجة “البدل” الخلوقة، كانت تغض بصرها على مدى سنة من خدمتها لسيدتها التي كانت تجهل حتى اسمها. أم إنه يفترض ـ وأوبو يعزى يخدمها ـ أن يغسل حتى بدنها إن رغبت في ذلك؟ خاصة وأن أبا يعزى خادمة، وأن زوجة “البدل” أبي شعيب تتعامل معها على اعتبار أنها امرأة مثلها، بناء على كذب زوجها؟ والحال أن لعنة الله على الكاذبين والمروجين للكذب مهما تكن مقاماتهم، أو درجاتهم المزعومة!!!