
منذ مدة وقبل الإثارة، في مجلس حضرته، ذكرت مسألة المسح على التقاشر، فذكر أحد الحضور بأنه سمع فقيها على إذاعة محمد السادس يقول بأنه لا يجوز، فأشار آخر من الحضور بأن هذا القول غير صحيح وبأن العلماء قالوا بجواز ذلك، وبأن ذلك الفقيه عليه كيت وكيت من المؤاخذات، وقال الآخر: لابد من التزام المذهب المالكي فنحن مالكيون..
فدار النقاش، بعدها تدخلت فقلت:
هذه المسألة قديمة حديثة:
قديمة في تناولها وتأصيلها وتحقيقها..
حديثة في العمل بها من جهة وإثارة الخلاف فيها من جهة أخرى..
فهي ترجع إلى نص وقياس، أما النص فهو قراءة الخفض في (أرجلكم) في آية الوضوء،د عطفا على الرؤوس الممسوحة، والخلاف في ذلك..
ونص المسح على الجوارب..
والقياس على الخفين في شكلهما ومادتهما..
وهل المسألة عزيمة أو رخصة؟ وهل العبرة بمطلق تغطية القدم أم بماهية المغطى به..
وهنا لابد من الإشارة إلى أمر عابر، وهو أثر تطور الصناعات النسيجية في هذه القضية، قد نجد اليوم قماشا أقوى من الجلد في متانته وعدم إمراره للماء وإمكانية الخطو عليه وبه وقد لا يكون ثخينا ولا صفيقا بل قد يكون شفافا!!، فهل ينظر إلى المادة أم إلى الحكمة في هذه المسألة؟ هذا أمر ينبغي أن يبحث..
وقلت: بأن المذهب المالكي على عدم جواز المسح، لذلك التزم الفقيه بالمذهب وغيره التزم بمذهب آخر قائل بالجواز..والخلاف في المسألة معتبر، وكل يأخذ بالمذهب الذي يطمئن إليه ولا ينكر على الآخر..
وبعد هذا المرور الموجز على هذه المسألة..قلت: الأهم من هذا النقاش المحتدم، والذي لا ولن يحسم، إن أتيت أنت بقول لعالم أو شيخ فسيأتيك الآخر بقول آخر، وإن كان مع أحدكما الجمهور أو الأغلبية فقول الأغلبية أو الجمهور لا يحسم الخلاف، ولا يرجح قولا على قول، لذلك حتى لا نرهق الجهد، ونضيع الوقت، نقف من أول طريق التراشق بالأقوال ما دمنا نرمي إلى أن نعبد الله بما يرضيه، ونقول بأن الخلاف معتبر والأمر فيه سعة،فمن رأى المسح فله ذلك، ومن رأى غيره فله ذلك، ولا يمكن قطعا في زمن الصورة والشاشة والبث المباشر والفضائية والفتاوى العابرة للقارات أن تضبط مجتمعا على مذهب، وجهود نشر وإشاعة وتقريب ذلك المذهب هزيلة وشبه منعدمة، لذلك لابد أن يتجه العلماء والدعاة إلى ترسيخ مبادئ تدبير الخلاف وأدب ذلك، وضرورة الرجوع إلى أهل الذكر، مع جهود في ترسيخ مذهب المجتمع وتقريب الناس إليه بالوسائل المناسبة، أما التشنج وظن الحسم فلن يزيد الطين إلا بلة، فيتهدم على من تحته..
وفي مثل هذه، وأنا حدث السن، كنت مولعا بالشيخ الألباني فاستمعت لآخر شريط له وهو وصيته للأمة رحمه الله، فمن آخر ما قال فيه: أوصي كل مصلي أن يجثو في سجوده على يديه لا على قدميه، فحز في نفسي أمر حينها، ولكنني تجاوزته، فبعدما من الله عليه بتعلم وفهم ومجالسة ومذاكرة فهمت ذلك الأمر الذي حز، وما كان إلا سوء تدبير الخلاف والحسم والصرامة فيما لا ينبغي عنده ذلك، وإعطاء الفروع والخلافيات أكبر من حجمها..
ودور العلماء في مثل هذه المناسبات هو طي هذا الملف بما يستحقه، وصرف الناس لما هو أولى وأهم من قضايا الأمة، وليدخروا ذلك التشنج وذلك الجهد وتلك الصرامة، وذلك التعمق في القول والبحث إلى تلكم القضايا، وليصدحوا فيها بما ينبغي، ومن مسح وصلى فقد صحت صلاته، ومن غسل وصلى فقد صحت صلاته، ومن مسح وأم فقد صحت إمامته..
ومن باب الطرفة: مرة في محاضرة من محاضرات جامعة الإيمان في شرح مسلم كان الشيخ الخميسي يناقش مسألة، فسأل أحد الطلاب سؤالا، يا شيخ أين أعقد ساعتي على اليد اليمنى أم اليسرى؟ فقال له بشكل سريع: اعقدها في ساقك، ومضى لما هو أهم، وإلى واجب الوقت..!!!!فكان موقفا حكيما طريفا..
هذا ما ينبغي أن يسار عليه سواء في هذه المسألة أو في غيرها من المسائل، وحذاري أن نكون سببا في فتنة للناس بإشغالهم عن الأهم من أمور دينهم ودنياهم..
سفيان أبوزيد