
للطبيب سريره، يفحص عليه مريضه، فالطبيب الماهر، هو الذي يشخص نوع المرض بالنظر إلى الأعراض، والطبيب الظالم هو الذي يفترض ابتداء مرضا ما،فيجتهد في البحث عن أعراضه في مريضه .
وللمفتي سريره، فالمفتي العالم ،هو الذي لا يتطاول في فتواه ،ولا يتسرع في اجوبته .
وللحداد سريره، وقصته أسطورة من أساطير اليونان ،تحكي عن رجل اسمه بروكرست كان حدادا وقاطعا للطريق ،وكان له سرير صنعه بمقاسات خاصة، فكان إذا أمسك بضحية، أدخله في سريره، فيقوم بمط جسد الضحية، حتى تنخلع العظام ،ويتمزق اللحم والأعصاب والعروق،فأما إذا كانت الضحية أطول من السرير، عمل الحداد بروكرست على قطع الأرجل والايدي، ليتناسب طول الجسد مع طول السرير الحديدي.
فهذه الأسطورة اليونانية، تخبربنا عن نزعة بعض الناس في فرض قوالب جبرية على الأشياء والأشخاص والأفكار، كما أنهم يعتمدون على لي الحقائق وتشويه المعطيات لتتلاءم مع ما حدوده بداية، اوبفرض حقائق ثم البحث عن ما يدعمها، وتفسيرها بعد ذلك بما يطابق الافتراضات الأولية لتناسب قسرا مخططا ذهنيا مسبقا.
فما ذكرناه،عن الطبيب العالم،والطبيب الفاشل،والحداد في أسطورة بروكروست، ينطبق على ميدان الفتوى والافتاء.
فالمفتي هو الآخر له سريره، فإن كان ماجنا ظلم ،وإن كان عالما سلم،ولهذا فاقتحام غير المؤهلين لحمى الفتوى له عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، والدين والدولة، ولهذا لا يجوز لمن حفظ بعض الأحكام، أو أجاد صنعة الكلام، أن يعلو كرسي الفتوى، فلا يحل لمن حطب ليلا بعض مفردات العلم ان يجيب الناس ،ولهذا كان العلماء قديما من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين و من تبعهم بإحسان، يتورعون عن الإفتاء مع ما هم عليه من العلم والفضل، فاشتهروا بقولهم” لاندري” فالعجلة وعدم التأني، والتساهل ،واتباع الهوى، وحب الشهرة، وفساد القصد، والعجب، والاغترار،من أهم الأسباب الدافعة للخوض في هذا المضمار الصعب، بالإضافة إلى الخوف من التجهيل، والعمل على إرضاء الظلمة والفسقة وأصحاب الدنيا، كذلك الوقوع في حبائل ومخططات العدو الذي لا يرقب في هذه الأمة إلا ولا ذمة.
فلما أصبح الربح مطلبا، والشهرة مكسبا،وحب الكرسي مذهبا، وجد المفتي في وسائل الإعلام والتواصل، من صحف،وجرائد، ومحطات اذاعية، وتلفزية، مراكب آمنة للوصول إلى الأهداف الشخصية، دون الإحاطة بالعواقب الوخيمة والأسباب لاقتحام هذا السبيل بالاغراض الدنيئة، و بالعلم الناقص، من مثل استباحة تتبع الرخص،بما يلحلقها من تجهيل العلماء ولو كانوا اكفاء، فيميل الناس إلى المدح، والابتعاد عن الحق، فتشيع الفرقة، وتنخرم عرى الإسلام والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين، لذا ولعلاج هذا التنطع في ميدان الإفتاء، وجب على العلماء ورثة الأنبياء، الوقوف ضد هذا الانحراف في الدين، كما وجب على الحاكم جنة الإسلام والمسلمين، أن يقي المجال الديني من فوضى الأهواء، والتجرؤ على الإفتاء.
تحياتي