
لقد أدركنا ونحن طلبة في سنوات السبعين من القرن الماضي آثارا لحرب حزيران سنة 1967 التي سميت بالنكسة والنكبة. وهي آثار لا يحتاج المرء جهدا كبيرا في تبين ملامحها وملاحظة مظاهرها. ومن الغفلة اعتبار أن تكون هذه الآثار دون تدخل من صناعة الكتائب السرية الماسونية والمخابراتية الصهيونية في العالم العربي.
فباستثناء الفئة الراسخة في العلم، والواعية بسنن التاريخ، والمستوعبة لفقه الواقع المعاصر، وتجاذباته التدافعية بين قوى استعمارية فقدت بعض قواعدها باستقلال معظم البلدان الاسلامية، ومعسكر اشتراكي يتشوف إلى الحلول مكان الاستعمار الغربي، مستثمرا في تطلع الشعوب العربية والإسلامية إلى التحرر والتنمية، والخروج من الحرمان والتخلف، وأنظمة حكم ضعيفة، معظمها استبدادي تحكمي، يتنازعها الولاء بين المعسكرين، وتتفاوت في ترتيب الأولويات، ومواجهة الإكراهات الداخلية والتحديات الخارجية، أقول باستثناء تلك الفئة المذكورة مواصفاتها، وهي عادة التي جمعت بين الشرعية التاريخية والازدواجية بين التكوين الأصيل والطموح الحديث، فإن تلك العدمية شملت كثيرا من النخب والجماهير. ومن آثارها الواضحة:
1- انتشار مظاهر العبث واللامبالاة التي انتقلت إلى الشباب العربي بما فيه المغربي من موجات السريالية وحركات الهبيزم في البلدان الغربية، نتيجة للفلسفة الوجودية وأخواتها، وما رافق كل ذلك من تمثلات سلوكية وتفاهات ثقافية وأشكال سيميائية.
2- انتشار ظاهرة الإبداع الأدبي في أشكال عدمية؛ كما تمثله قصائد الشعر الحر التي كانت تملأ الصحافة القومية واليسارية لشعراء أمثال؛ بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وأضرابهم. وقبل ذلك عند بعض شعراء مدرسة الديوان، كإيلياء أبي ماضي في مثل قصيدة: جئت لا أدري من أين ولكني أتيت فأبصرت قدامي طريقا فمشيت.
وفي الرواية أيضا؛ كما يتجلى في بعض أعمال نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل بعد ذلك، مثل؛ ثرثرة فوق النيل، وحكاية بلا بداية ولا نهاية. وقد كانت الرواية الأولى من المقررات علينا في دراسة المؤلفات بمستوى البكالوريا.
3- انتقال هذه الروح إلى الموسيقى والغناء، كما يتجلى في الاختيارات الني كانت تروج لدى الطلبة، بما فيها إنتاجات المدرسة الغيوانية ، وشعر أحمد فؤاد نجم الذي يغنيه الشيخ إمام.
وقد واكب هذا مزيد من جرأة الاتجاه الحداثي، واليساري منه على الخصوص، في نقد التراث بدعوى أنه سبب التخلف والهزيمة وعدم التحرر والنمو؛ فراجت في أوساط الطلبة والمثقفين كتابات أمثال بوعلي ياسين في الثالوث المحرم ( الدين والجنس والصراع الطبقي )، ونوال السعداوي في مؤلفاتها عن المرأة والجنس، مثل كتاب؛ الأنثى هي الأصل.
وانعكس ذلك على استغلال مناهج التعليم في هذا الاتجاه الإيديولوجي، خاصة في الاقتصاد والفلسفة والتاريخ والأدب.
4-تسرب بعض أوجه العدمية حتى إلى بعض العلماء، حتى نقل عن أحدهم أنه قال: ” إذا رأيت الناس يسجدون للقرد فاسجد معهم.” وكما قال أحد الظرفاء باللسان الأمازيغي، وهو يسلم في بيته سجادة لأحد الفقهاء ليصلي في آخر الوقت: ” الطلْبة سنْ رْبي، ولكن أُورْ تْكْصُوضْنْ.” ( الفقهاء يعرفون الله، ولكن لا يخشونه.)
5-اتخذ ذلك شكلا آخر عند البعض الآخر منهم، وهو فقدان الأمل في نصح الأمة وصلاحها وعودتها إلى عزتها وكرامتها، وقد كنت مرة في مجلس حضره المرحوم الشيخ الوالد، فتحدث أحد الفضلاء من قرابتنا بالخطاب والمصطلحات المستعملة خاصة عند إحدى الجماعات الإسلامية المعروفة، وهي جماعة الدعوة والتبليغ، مثل الجهد، والاجتهاد لدعوة الأمة، واستنهاض همم العلماء للنصح والإرشاد، وما قارب ذلك، فقال المرحوم الوالد، وهو الذي أمضى أزيد من نصف قرن من حياته مدرسا ومربيا وإماما وخطيبا وواعظا وعضوا من مؤسسي جمعية علماء سوس وفاعلا في رابطة علماء المغرب، ومسجلا مواقف في تغيير كثير من البدع والمناكير وصلت إلى درجة مراسلة ذوي السلطة والقرار…( انظر ترجمته في معلمة المغرب 3/ 989-990. فقال: ” مشات الأمة “، أي الأمة أو هلكت. ومن حين لآخر أتتذكر هذه العبارة وأتأمل فيها، خاصة في الظروف الأخيرة التي انتهك فيها عرض الأمة، وتكاد تذوب هويتها وتفقد عزتها وكرامتها.
واذا قارنا بين آثار العدمية بعد نكبة 1967 وآثار حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذ ما يقرب من نصف العام، فإننا نكاد نتبين بوضوح آثار العدمية بعد النكبة الجديدة مع زيادات و فروق واضحة متنامية ومتزايدة. ومن المظاهر التي يعد بعضها أسبابا في الآن نفسه لهذا الوضع:
1-عدمية النخب الفكرية، بما فيها النخب الدينية، إلا بالنسبة لأفراد محدودين وهيئات مستضعفة غير نافذة، وفاقدة لما تملكه مؤسسات أخرى، من إمكانيات وموارد مادية وبشرية لتنفيذ الخطط وتجويد الفاعلية.
2-عقم الفاعل التربوي عن الإدماج الفعال لمكون الانتماء الديني والقومي والوطني في المناهج الدراسية ذات الصلة، خاصة التاريخ والأدب والفلسفة والفكر والتربية الإسلامية. لأسباب منها التي تحول دون التأصيل والتجديد، بما فيها قيود التخصص الضيق، وضعف الاهتمام بالتكامل المعرفي والتنوع المنهحي، والغفلة عن مزاحمة القيم الذاتية الأصيلة من قبل القيم الأخرى المناقضة في وحدات دراسية أخرى لها معاملات أقوى واستراتيجيات بيداغوجية أمهر، وارتباط بالتدافع اللغوي الدولي الانجلوفرنكفوني، خدمة لمشاريع العولمة الحضارية الخادمة للاستقطاب الغربي والاستكبار العالمي، التي نكتشف التفافها على مشاريع النهوض والإصلاح والتجاوز كلما أتعبنا أنفسنا في هندسة مشاريع بيداغوجية وعلمية لجعل المخرجات التربوية والجامعية في مستوى ضخامة التحديات الداخلية والدولية المستجدة.
3-تيه البحث العلمي والدرس الجامعي عن أولويات الاهتمام في التدافع الحضاري والترافع العلمي لخدمة قضايا الأمة والهوية والمصير. فلا تكاد الأضواء تلقى في الدرس القرآني على السنن الحتمية التي تحكم صراع الحق مع الباطل، وحقيقة اليهود وتاريخهم مع الأنبياء والانسانية، والمنهج النبوي في التعامل معهم، وأدوارهم في الحضارة الاسلامية، وحدود حقوقهم السياسية والدينية والاقتصادية، وفتاوى الفقهاء في نوازلهم، وانخراطهم في الحمايات القنصلية بالمغرب، والامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية، وأدوارهم في التمهيد لتدخل الحماية والانتداب، ودور علاقتهم مع فرنسا في الحركة الصهيونية وتأسيس الخلايا الماسونية الأولى بالمغرب، وسوابق التاريخ الاستعماري في تحريض القومية العربية ضد الدولة العثمانية، ودور لورنس العرب (توماس إدوارد لورنس 1888-1935) في ذلك الدور، واستقطاب شريف مكة لتأسيس السلالة الملكية القومية العربية التي حكمت الشام والعراق، وبداية القضية الفلسطينية وتطوراتها، (وقد اغتيل الملك الأول للأسرة عبد الله بن الحسين في المسجد الأقصى سنة 1951 من قبل شاب مقدسي يدعى مصطفى شكري). ودور اللوبيات اليهودية بالغرب في صياغة السياسة الخارجية لبلدانهم، خاصة الولايات المتحدة، تجاه العالم الإسلامي، ودور المنظمات الصهيونية بأمريكا في دعم إسرائيل والمشروع الصهيوني، وتقويم جهود مراكز الدراسات والبحوث الفلسطينية، ومآل الهيئات المؤسسة لخدمة قضية القدس وفلسطين.
وفضلا عن ذلك يغيب الاهتمام بفقه الاستعداد والمواجهة والممانعة الذي ألف فيه مجددون في ظروف تحديات مماثلة، مثل الحروب الصليبية، والاحتلال الإيبيري للشواطئ المغربية، وظروف الضغوط الاستعمارية في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، كبعض نصائح الملوك مثل رسالة اليوسي إلى المولى إسماعيل، وفتاوى علماء المغرب بعد حرب تطوان وإيسلي، وأعمال منظري الاستعداد والمواجهة في المغرب المعاصر، مثل السملالي، والمشرفي، والكردودي، وغيرهم.
يضاف إلى ذلك ندرة إلقاء الضوء على دراسات الظل -كما يسميها أحد المستشرقين- للأدوار المشتركة التي قامت بها الحركات الصوفية بين الروحي والاجتماعي والسياسي والعسكري. ولم تكن كلها في ذلك على مستوى واحد، إذ كان بعضها أداة في يد الاستعمار لمحاربة حركات المقاومة والتجديد، ولكن الاهتمام بهذا التداخل في الظاهرة الصوفية، من شأنه التنبيه إلى قوة الممانعة الكامنة في البنية العقدية والسلوكية للمسلم المعاصر، وآفاق تفعيلها.
4-أزمة الخطاب الديني المحاصر بهشاشة مناهج تكوين الفاعل الديني المعاصر، بعد الضربات المتتالية التي تلقاها التعليم الأصيل والجامعات الإسلامية الكبرى، منذ دخول الحماية الفرنسية، والصعوبات المصطنعة التي توضع في طريق محاولات التجديد وفق نظرات ونظريات رواد جمعوا بين فهم النص ومسار التاريخ وفقه الواقع.
5-أزمة الذوق العام الذي تنكب معرفة الأصلح واختيار الأمثل فالأمثل. فالعلماء الراسخون غير ممكنين من فرص أوسع لإيصال رؤاهم وأفكارهم وتقويمهم لمسارات المجتمع واختياراته ومآلاته. والفضاء الأصفر والأزرق مملوء بإنتاجات تتراوح بين حوار مع جني مسلم، وانتهاء بالسخرية والاستهزاء بحملة العلم والقلاع الأخيرة لقيم الخير والدين.
6-ظاهرة الاستقالة والانسحاب من الاهتمام بهموم الأمة وشواغل النهضة وآمال الصحوة، نتيجة الإحباط الناجم عن خلل البدايات وضبابية المسارات، لفقد الموجه الخبير بالمسالك والمربي العليم بالمهالك.
7-احتشام جهود المجتمع المدني في البلدان العربية والإسلامية في اتخاذ المبادرات الفكرية والتنسيقية لخدمة قضية الأمة الأولى، نتيجة سيطرة استراتيجيات التفكير الضيقة، وتهيب مآلات المبادرات المماثلة، وتعسف قوى التحكم والاستبداد، وتغول التطبيع والاستعباد، واستقطاب الكفاءات المتميزة
إلى مهام صغرى وأدوار ثانوية، بتورمات تأثيتية، ومظاهر خادعة، وفاعلية محدودة.
8-عدم حرص القيادات الفكرية الإصلاحية على إنتاج وتخريج الخلف المستوعب للأمانة والمؤهل للرسالة في ظروف تغشاها باستمرار متغيرات متجددة ومفاجآت قوية.
9-ضمور أدوار مشاركة تاء التأنيث في ميدان التدافع والترافع والممانعة، رغم ارتفاع نسبة التمدرس والتخرج الجامعي في صفوف الإناث، ولعل مرد هذا الضمور إلى:
أ-عدم تقدير خطورة مطالب الحركات النسائية التي رهنت نفسها، بوعي أو بدون وعي، بالأجندات الغربية التي تعكسها المؤتمرات والاتفاقيات الدولية حول المرأة والأسرة والطفولة.
ب-سلب الرجال بعض مظاهر وأولويات التدين من النساء، والخلل في توزيع الاختصاصات وترتيب الأولويات.
ج- الاستمرار في الفقه المرتبط بالأعراف، ومراعاة المآل وسد الذرائع، فعدم المشاركة العامة للمرأة آمن على عرضها، وأسلم لغيرة الرجل واحتياطه.
د- تجاهل الدرس المقاصدي في الترجيح بين المصالح المترتبة عن مشاركة المرأة في قضايا النهضة والنصح والإصلاح، والمفاسد المحتمل وقوعها من هذه المشاركة، خاصة عند غياب شروط أخلاقية وتنظيمية معينة.
10-الوقوع ضحية استراتيجية التفاهة التي تطبع الساحة الإعلامية والثقافية والفنية بكل آثارها على استنزاف الموارد الاقتصادية واستهلاك الطاقات البشرية وتردي المستويات الأخلاقية وانتهاك الأرصدة الحضارية، واستفزاز الأذواق السليمة، وتضييع فرص النهضة الوطنية.
11-الغفلة عن الأسلحة الناعمة في إعداد جيل التحدي والممانعة الممهد لإعداد أجيال الجهاد والمغالبة، والتمكين والشهادة.
ومن هذه الأسلحة الناعمة: التزكية بالذكر والمجاهدة، والتوعية بالعلم والمذاكرة، والترويح بالأدب والأنشودة، والتمرين بالتغذية والرياضة، والمواساة بالإنفاق والمعونة، والتواصل بالتراحم والمناصحة، والإشفاق على المخالف بالحكمة والمناظرة. واتقاء خطر المنافق بالتمييز وعدم الغفلة.
والموضوع ككل له ارتباط بموضوعات وقضايا أخرى قد تتاح الفرصة لبسطها والإلمام بمفاتيحها المنهجية الضرورية وآفاقها المستقبلية المحتملة، ومن الله استمداد العون والسداد.