
في غضون شهر رمضان المنصرم (1445ه)، سألتني إحدى الطالبات عندي حول مشروعية إقامة مسجد خاص للنساء؟
ومناسبة السؤال هي افتتاح مركز نسائي، ثقافي اجتماعي، بقطر، يحمل اسم [المجادِلة مركز ومسجد للمرأة]. وقد أقيمت فيه صلاة تراويح خاصة بالنساء، لكن بإمام رجل، وخلفه – في الصورة المنتشرة – مصلِّيان رجلان..
وشاركت في مناقشة هذا الموضوع طالبات أخريات، بعضهن مؤيدات للمبادرة، وبعضهن متحفظات منها، لما سمعنه من اعتراضات يرى أصحابها أن هذا العمل بدعة لا أصل لها في عمل السلف والعصور الماضية، وأن قاعدة سد الذريعة تقتضي إغلاق هذا الباب، نظرا للتخوفات من أهداف المركز ومآلاته..
ثم أثار الموضوعَ معي بعض الزملاء..
وهذا مضمن رأيي وما قلته في مناقشة الموضوع..
1. الأصل في الإسلام أن المساجد تكون للرجال والنساء في آن واحد.
فليس عندنا – في الأصل – مساجد خاصة بالرجال، ومساجد خاصة بالنساء، إلا إذا عرض ما يدعو لذلك، ويخدم مصلحة الإسلام والمسلمين، فلا مانع حينئذ..
2. لكن الذي حصل – للأسف – في تاريخنا الطويل، وإلى الآن، هو أن أكثر مساجدنا تعتبر حكرا على الرجال، ولا نصيبَ فيها للنساء. ومع ذلك لا نجد من يقول: هذه بدعة، أو هذا منكر وخلل!
3. نحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متاحا للنساء والرجال على حد سواء، للفتوى والمشورة والإرشاد، كما في دروسه وخطبه أيضا.
وفي صحيح مسلم أن أم سلمة – أمَّ المؤمنين – رضي الله كانت في حجرتها، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس..». قالت: فقلت للجارية – وكانت تمشطها -: استأخري عني، ثم هبت لتسمع ماذا يقول رسول الله. فقالت لها الجارية: إنما دعا الرجال ولم يدعُ النساء. فقالت أم سلمة: إني من الناس. وانطلقت لتسمع الحديث النبوي..
وفي (شرح السنة) للبغوي، عن أنس رضي الله عنه قَالَ: (كانت الأَمَة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتنطلق به حيث شاءت)، يعني: تسأله، أو تشتكي إليه، أو تستشيره وتحاوره.
وكلنا نعلم ونقرأ قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
4. ومع ذلك فإن صحابيات اشتكين من كون نصيبهن واستفادتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من نصيب الرجال واستفادتهم. فتجاوب النبي الكريم مع هذه الملاحظة وأخذ بها..
ففي الصحيحين: جاءت امرأة ٌ إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتي فيه تعلمنا مما علمك الله. فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا، فاجتمَعن. فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهن مما علمه الله…
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة).
5. فإذا وجدنا الرجال قد استحوذوا على المساجد ومنافعها، وعلى الاستفادة من علمائها وخطبائها ومدرسيها ووعاظها، فجعلنا للنساء شيئا من التعويض والتدارك الخاص بهن، فهذا شيء حميد مشكور، موافق للهدي النبوي، ولمنطق الأشياء.
6. وأما وصف المبادرة المذكورة بأنها بدعة،
فجوابه أن البدعة هي: إحداث شيء جديد في الدين: من المعتقدات، أو العبادات، أو الهيئات التعبدية.
وأما الإحداث والتطوير في الوسائل المفيدة والأشكال التنظيمية، بما يخدم العبادة، ويشجع الناس على أدائها والمحافظة عليها، دون أن يتدخل في صميمها، فهذا معمول به في جميع العبادات، ومنذ عصر الصحابة.
ومن ذلك: الزيادة في الأذان لصلاة الجمعة، وتنظيم صلاة التراويح الجماعية الراتبة، واتخاذ أئمة راتبين بأجرة، وتحفيظ القرآن بأجرة، وترك إخراج زكاة الأموال الباطنة لأمانة المكلفين يتولونه بأنفسهم، والاستعانة بـ”المسحراتيين” لإيقاظ الناس للسحور، وإضافة مواقيت مكانية جديدة للحجاج والمعتمرين، لم تذكر في حديث المواقيت..
7. هذا المسجد المخصص لنساء، المقام مع مركز (المجادلة)، هو في الحقيقة مسجد يقع ضمن مؤسسة نسائية متعددة الاختصاصات والخدمات. فهو مسجد لرائدات المؤسسة والعاملات فيها، يصلين فيه جماعة، ويستفدن منه تعليميا وتربويا واجتماعيا، مثلما يستفدن من سائر مرافق المؤسسة الخاصة بالنساء.
وهذا كله يقدم نموذجا تجديديا رشيدا في التدين والإصلاح الثقافي والاجتماعي. وبالله تعالى التوفيق.
أحمد الريسوني، أستاذ الفقه والأصول والمقاصد،
بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة قطر.
الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.