
لله سنن في أرضه لا بد للمرء أن يتأملها، ولابد له أن يتمعن في أسباب نهضة الدول وكذا أسباب أفولها ثم اندثارها. تتغير الأزمنة والأمكنة ويتغير الأشخاص، لكن الوقائع تُعاد إلى الوجود لا تغيب!.
انتبه ابن خلدون باعتباره عالما للاجتماع – علم العمران البشري بلغة القوم – إلى هذه السنة، فخلُص إلى الدورة الحلزونية للدول (زبدة أفكاره)، والتي تعاد مع كل دولة، ليتفطن فلاسفة التاريخ بعده إلى هذا الأمر ويكتبوا فيه.
لكن، حتى وإن اختلف الزمان والمكان فقد كان هناك سبب واحد رئيس أُسقطت دول بسببه وارتقت دول أخرى، ألا وهو “الفكر”. إن الحرية الفكرية كانت ولا زالت وستبقى هي أساس كينونة الدول ، كذلك كان مع العباسيين والموحدين والعثمانيين وغيرها من الدول التي كان الفكر سببا في نهضتها وسموها وكان الفكر أيضا سببا لسقوطها. كما لا يخفى على أحد أن النهضة الأوروبية ولولا الحرية الفكرية التي أصبح يتمتع بها مفكرو الغرب بعد تضييق ومنع، لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه علميا (لا أخلاقيا).
مرت أمريكا بالعديد من الأزمات المالية والسياسية والأخلاقية…، لكنها لم تسقط ولم يظهر عليها بوادر السقوط حتى، ومردّ ذلك إلى أنها لا تزال تدعم الحرية الفكرية داخل مجالها.
لكن، وبعد قمع التظاهرات المنددة بالجرائم الصهيونية من طرف فلاسفة أمريكا، وبُعيد اعتقال رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري، نويل مكافي صاحبة كتاب “الخوف من الانهيار: التحليل النفسي والسياسة”، وهي واحدة من جملة الاعتقالات التي طالت العديد من الفلاسفة والمفكرين في الغرب عموما وفي أمريكا على وجه الخصوص، نتاجا للتنديد بالجرائم المرتكبة في حق الفلسطينيين العزّل، فإنّ أمريكا بهذا الفعل دقّت المسمار الأخير في نعشها.
كانت أمريكا وإلى عهد قريب لا تزال تحترم نفسها باحترامها لأهل الفكر، وكان ميزانها لا يزال متوازنا نتاجا لهذه الحرية التي كان يتمتع بها أرباب الفكر هناك لعلمها الشديد أن المفكر أشد خطرا، وأشد فتكا من غيره من العلماء في المجالات المختلفة، إذ المفكر هو الذي تتبنى الدولة أفكاره والاستراتيجيات التي يرسمها، ولا أدلّ على ذلك من أمريكا نفسها التي تتبنى فكرة هنتنغتون في صدام الحضارات متجاوزة بذلك أطروحة فوكوياما في نهاية التاريخ.
كنت أسمع دائما أن أمريكا آيلة للسقوط، وكنت أرفض هذا الطرح رفضا كليا، إذ الانسحاب العسكري، أو التنازلات السياسية ليست هي التي تقيم الدول أو تسقطها، إنما هو الفكر. اعتُقلت نويل وأخذت معها المطرقة التي ستدك بها حصون أمريكا من الداخل، لهذا وبعد محاولة اغتيال الفكر والرأي أقول “من هنا ستنتهي أمريكا”.
كتب ألكسيس دي توكفيل “الديمقراطية في أمريكا”، فأين أمريكا من ديمقراطية دي توكفيل الفرنسي!؟ وأين فرنسا من ديمقراطية ألكسيس ومن مبادئ الثورة الفرنسية التي غيرت بها مجرى التاريخ؟ وهل مات هتلر في عقول الألمان أم أن العِرق ينبعث من جديد؟… .
أقول.. من هنا بدأ أفول الغرب!.