
قال لي : حسبنا كتاب الله الفارق بين الحلال والحرام وقد تكفل الله بحفظه، وأنتم تزاحمونه بمرويات لا ندري متى ولا كيف جمعت..!
قلت له :يا صاح إن القرآن الذي تتحدث عنه هو من أمرنا أن نطيع صاحب الرسالة لأن حياته وحديثه وأخلاقه كانت تجسد القرآن في تعامله مع ربه ومع أهله وأصحابه وأعدائه، فكيف نفرط في هذا الكنز والمثل الأعلى الذي يبين القرآن ويعيش به، فالناس تتأثر بالقدوة أكثر مما تتأثر بالقراءة..
قال المنكر: لكن ما يدريني أن قوما تقولوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ودسوا عليه ما لم يقل وما لم يعمل؟!
أليس هذا باب لصناعة دين آخر يزاحم الدين الحق؟
قلت له: هل اطلعت على الجهود الجبارة التي قام بها محققو السنة لتمييز المقبول من المردود؟!
قال لا! لكن ما أعلمه أن تدوين السنة النبوية لم يبدأ إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمائتي سنة وهي فترة كافية للزيادة والتحريف والتركيب..
قلت : لو اطلعت على منهج المحدثين في التصحيح والتضعيف لما وسعك إلا أن تعترف بما اعترف به خصوم الإسلام حين اطلعوا على هذا المنهج الدقيق فقال كبيرهم من المستشرقين (ليفخر المسلمون بعلمهم هذا ما شاؤوا فلا توجد أمة على الأرض تملك مثله في التحقيق) ثم إن تدوين السنة النبوية لم يبدأ بالإمام البخاري كما يشيع خصوم الحديث ليطعنوا في السنة، بل بدأ بزمن النبي صلى الله عليه وسلم..
قال مقاطعا: ما أعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث بينما أذن في كتابة آي القرآن، فكيف تزعم أن تدوين السنة كان في عهده؟!
قلت له: كيف علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث وأنت تنكر السنة لأن هذا النهي لم يرد في القرآن بل في الحديث عند الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري: “أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكتبوا عنّي، ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عليّ – قال همّامٌ أحسبه قال: – متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار”
لكن الصحابة فهموا أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يختلط الحديث بالقرآن إبان التنزيل، فلما أمنوا من الخلط بينهما دونوا الحديث بمعزل عن القرآن، لكن غالبا كانوا يعتمدون الحفظ والذاكرة القوية إحدى مميزات العرب.
وقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة أنه قال: “ما من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب”.
ثم جاءت مرحلة التدوين الرسمي للسنة بأمر سلطاني ويعد الخليفة عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101هجرية أول من أمر بجمع الأحاديث وتدوينها في كتب خاصة، فكتب إلى الآفاق: “انظروا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاجمعوه”، وكتب إلى أهل المدينة: “انظروا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله”.ويعتبر الإمام الزهري أول من اهتم بجمع السنة النبوية ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي غربلة ما جمع منها بحيث تم تمييز الصحيح من الضعيف وينسب للإمام البخاري المتوفى سنة 256هجري السبق في هذا العمل الجليل حيث التزم شروطا دقيقة في الرواة والأسانيد والمتون لقبول الحديث وصنف الجامع الصحيح في ست عشرة سنة مع ما كان يتميز به من ذكاء حاد وذاكرة خارقة بشهادة شيوخه ومعاصريه..
قال منكر السنة: أليس الاكتفاء بالقرآن أسلم لمن يحرص على دينه من أن يتسلل إليه وهم أو تحريف؟!
قلت : ياصاح إن القرآن نفسه في عدد من آيه لا يفهم إلا بالسنة، وإن أركان الإسلام لا تعرف بالقرآن دون السنة، فكيف تعرف الصلاة بأركانها وشروطها وقل مثل ذلك في أنصبة الزكاة وأحكام الصيام ومناسك الحج، فهذا كله تعلمناه من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يوجد في القرآن..
قال المنكر للسنة كيف تزعم أن بعض آي القرآن لا تفهم إلا ببيان من السنة التي تفصل مجمله بزعمكم أو تقيد مطلقه..إلخ
قلت له الأمثلة على ذلك كثيرة فلنشر إلى بعضها..
قال هات ما عندك..!
قلت:
المثال الأول في قصر الصلاة الرباعية للمسافر، فالله تعالى يقول (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) فاللغة وحدها في فهم الآية تجعل قصر الصلاة مشروطا بالخوف من العدو وهذا ما فهمه الصحابة من الآية وهم أهل اللسان حتى بينت السنة المعنى المقصود فعن يعلى بن أمية قال: سألتُ عمر بن الخطاب قلتُ له: قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقد أمن اللهُ الناس؟! فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: (صدقة تصدّق اللهُ بها عليكم، فاقبلوا صدقته).
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج، عن عبدالرحمن بن عبدالله ابن أبي عمار، به.
المثال الثاني في قوله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
فاللغة تقتضي أن الحاج مخير في الطواف بين الصفا والمروة من عدمه فجاءت السنة لتبين أن الحرج من الطواف بينهما كان له سبب رفعه الإسلام فعن عائشة أم المؤمنين قالت: إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلل . وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية . فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) إلى قوله : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما . أخرجاه في الصحيحين ..
المثال الثالث:قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وقد حصرت الآية المحرَّمات في هذه الأشياء الأربعة، كما أفاد ذلك أيضًا آية النحل: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [النحل: 115]، وكذا آية البقرة: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 173]، مع أنه قد صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الحُمُر الأهلية، وغير ذلك..
فالمسلمون لا يأكلون القطط والكلاب مع أن مئات الملايين من شعوب آسيا يأكلونها، والسبب أن السنة النبوية حرمت تناولها..
واقتصرت على هذه الأمثلة لبيان أن السنة تستقل بالأحكام الشرعية أحياناً وتفصل مجمل القرآن أحياناً أخرى، ومن ترك السنة ضل ضلالا بعيداً..
قال منكر السنة : بالنسبة لأركان الإسلام فقد نقلت إلينا بالتواتر العملي جيلا بعد جيل نتناقلها إلى من بعدنا كما تلقيناها عمن قبلنا، فلا ضرورة فيها لبيان السنة كما تزعمون..!
قلت :لو كان الأمر كما تقول لضاع الدين في الخلط والخبط الذي نشرته عبر القرون الطرق البدعية التي تزيد شعائر وطقوسا لا دليل عليها من كتاب أو سنة وإنما استحسنتها عقول مشايخ ضلوا وأضلوا بأهوائهم، فالسنة المحفوظة في الكتب وفي الصدور هي الميزان الذي نميز به بين الأصيل والدخيل..
فتأمل هذا فهو نافع لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..