رأي
آفة استنزاف الدول العربية للطاقات البشرية والفكرية ونسفها لآمال مفكريها وشعوبها
بقلم الدكتور عبد الله سيفيا مدير جريدة النشرة الالكترونية

بقية الحديث … لقد أثار حميتي وأصابني بشيء من الغيظ منذ زمن بعيد ولازال يغيض صبري أمر عجيب ، لطال ما أثرناه أكثر من مرة ، وأثار أيضا استغراب متتبعي الشأن التربوي والعلمي وأجج غضبهم ،فسال مدادهم مستنكرا لما يحدث من هدر للمجهودات التي تبذلها الدول العربية والمستنزفة للإمكانيات المالية والبشرية والفكرية والمؤسساتية والتنظيمية الهائلة التي ترصد لهذين المجالين الهامين والحساسين في نفس الوقت ، ناهيك عن الزمن المخصص لمسيرتهما ومتطلباتهما الهائلة التي لا تقاس بثمن حين يكون الهدف منها وضع أسس قوية لحاملي مشعل التقدم والمسؤولية الوطنية والثقة المتوخاة منهم لجني ثمار هذه المجهودات وخلق أبناء بررة قادرين على رفع الحيف عن اوطانهم مدافعين عنها بكل ما أوتوا من قوة ، مساهمين في بناء مجتمع واع ومتراص ومتكامل يسعى إلى النمو بالبلاد ومؤسساتها والسعي بها نحو مستقبل زاهر وآمن ، فإذا بنا نصادف العبث بمصيرهم ومصير البلاد والدفع بهم ليصبحوا لقمة سائغة بين أنياب أعداء الأنظمة العربية والإنسانية ليستغلوهم حق استغلال ، بعد أن يفتحوا لهم ذراعيهم ويحتضنوهم ويوفروا لهم أجواء التحصيل والبحث والإبداع والإمكانيات اللازمة لذلك فتكون النتائج المحصلة من الطرفين هائلة ويندمج هؤلاء في المجتمعات الغربية ويصبحون جزءا منها ويؤسسون لإضافات نوعية ورائدة يقتدى بها وتساعد الدول المسضيفة على اعتلاء كرسي الريادة لتبقى دائما في الأمام كالقاطرة التي تجر عربات الدول العربية وتتحكم في سرعة نموها بشروط تمليها عليها وتستغل تخلفها حتى تبقى تابعة لإملاءاتها ومنفذة لأوامرها راكعة تحت أقدامها .
وقد رأينا ذلك كثيرا وفي مجالات لا تعد ولا تحصى أغلقت الدول العربيه فيها أبواب التحصيل والإبداع في وجه طلبتها ومفكريها لتخلق في نفوسهم اليأس والتشاؤم والخذلان والاحساس العميق بالالم وتجرع مشاعر الخيبة والإحباط الشديد مما قد يسبب لديهم استياء من النفس نتيجة تلقي مثل هذه الصدمات التي تخلق لديهم احساس بالدونية والعدمية وعدم الإنصاف المستحق ، فيفقدون الأمل والثقة ليصبحوا عبارة عن سلعة أو مادة قابلة للاسعمال والاستغلال من طرف أي كان ممن يرفع عنهم الظلم والجور وينقذهم من شبح البطالة الذي يتربص بهم ، لتفقد بلداننا العربية اطرها ومفكريها وعددا كبيرا من تقنييها واليد العاملة المؤهلة ، والامثلة كثيرة ومتنوعة كالاطباء والممرضين والمهندسين والرياضيين وغيرهم ، الذين غادرو بلدانهم والتحقوا مجبرين ببلدان الغرب كأوروبا وكندا والزلايات المتحدة الامريكية … بحيث كانت تكلفة هذه الأطر ببلادها تفوق ملايير الدولارات والتي كان معظمها دين على الدول العربية من طرف البنك الدولي بشروط قاسية ستعاني منها لسنوات طويلة ، لتصب نتائجها في بلاد الغرب ، عوض ان تستفيد بلادنا العربية من طاقاتها وإمكاناتها الهائلة المهدورة بسبب عشوائية الأنظمة والحكومات والمؤسسات المسيرة بهذه البلدان العربية ، التي يبدو أنها تدق آخر مسمار في نعشها بفقدانها لبوصلة التوجه السديد والمصلحة العامة ، مستبدلة إياها ببوصلة المصالح الخاصة والضيقة التي لا مناص من تبعاتها الخطيرة .
ناهيك عن العديد من الأطر والمفكرين الذين أرادوا العودة إلى بلدانهم وإغناء مكتسباتها العلمية وجعلها تستفيد من تحصيلهم وافكارهم وكفاءاتهم العالية ليكونوا قيمة مضافة ويتخذوا قدوة حسنة يستنار بها في مجالاتهم ويستعانوا بتجاربهم ومعارفهم ، لكن للأسف ، أبى الشيطان إلا أن يطرد الملائكة بعيدا عن وكره حتى يحافظ على نجاسته ونجاسة من يتبعه .
وكمثال على ذلك جئنا بصورة حية لما سبق ذكره ويتمثل في شخصية مصرية عانت مما يعاني منه العديد من الشباب الطلبة والمفكرين وهي الدكتورة البروفيسور هدى مراغي مصرية الأصل ، بحيث فى سبعينات القرن الماضي سافرت هذه السيدة إلى كندا لتحصل على الدكتوراه في الهندسة الصناعية وبعد التخرج عادت الى مصر فرفضت الجامعات المصرية أن تعترف بالدكتوراة الكندية وطلبت منها ان تنزل درجة من أستاذ مساعد في كندا إلى مدرس في مصر لان اللوائح تنص على هذا لم يكن ذلك الامر بالسهل ، فعادت الى كندا لتصبح أول إمرأة عميد لكلية الهندسة في تاريخ كندا ، فأصبحت أول إمرأة تحصل علي الأستاذية في الهندسة الصناعية بتاريخ كندا ، وكذلك أصبحت أول امرأة تعين مستشارة لوزير الدفاع الكندي ،
كما أنها تم انتخابها كزميلة في الأكاديمية الدولية المرموقة لبحوث الإنتاج في باريس فمن هي؟
هي المهندسة الوحيدة التي تم ذكر اسمها في كتاب الأضواء الشمالية للمرأة الكندية المتميزة
فالموضوع ليس اكاديميا فقط وإنما يجب على القارئ أن يعلم أنها أسست “مركز نظم التصنيع الالي” في “جامعة ويندسور” وهي مدينة تقع علي الحدود مع “ديترويت الامريكية”
ثم تعاقدت معها شركة “فورد” التي استفادت من أبحاثها وأستعانت بها كمستشارة في بناء مصنع فورد للسيارات للأنسان الآلي. وشركة “كرايسلر” للسيارات ايضا أستعانت بها في تحديث مصانعها
وحصلت من كندا على وسام “أونتاريو” الكندي تكريماً لجهودها العلمية وهو الوسام الذي يعد مثله كمثل “وسام الجمهورية” من الطبقة الأولى
لهذا لابد من طرح تساؤل مسؤول علة مسؤول غير مسؤول تسبب في إجلاء مثل هذه القامة العلمية الكبيرة التي كان من الممكن ان تحدث طفرة في مجالاتها للبلاد التي هي اولى بها فتصبح قيمة مضافة وقدوة لشباب ىخرين بدولة مصر تحفزهم على الاجتهاد والمثابرة بروح وطنية لخدمة اغلبلاد والعباد ؟
في حين توجب طرح تساؤل واقعي ولا مناص منه يكمن في ما يلي .. لو أن الموظف الذي كان يطبق اللوائح مع هدى مراغي في ذلك الوقت وافق على قبولها فقط في جامعتها الأصلية بدرجتها العلمية التي جاءت بها من كندا ، لكانت الآن تعاني من السكر والضغط وتركض لاهثة وراء الادوية والاطباء وغارقة إلى الرأس في تصحيح أوراق الأمتحان ، أو تكون وصلت سن التقاعد بلا جدوى إلا الإحباط والضياع والندم … وللحديث بقية .