
حرصا من اطلالة بريس على نشر الراي والراي الاخر ننشر لكم هذا المقال المنشور على صفحة الدكتور حمزة الكتاني بالفيسبوك
———————————–
في أوج انشغالنا بقضية إخواننا الفلسطينيين ومآسيهم ومصائبهم التي يندى لها الجبين، وتشيب الولدان. وكذا بالدفاع عن الكثير من القضايا الإسلامية والهوياتية المثارة في وطننا المغرب، والحملة الشرسة ضد تاريخنا وديننا وشريعتنا..
بدأت بعض الصحافة المحسوبة على التيارات العلمانية في بلادنا شن هجوم على العائلة الكتانية من حيث هي عائلة، ومن حيث هي طريقة، وذلك انتقاما من شقيقي العلامة القائم بالحق؛ الشيخ حسن بن علي الكتاني حفظه الله تعالى، خاصة بعد وقفاته العظيمة والفذة دفاعا عن الأحكام الشرعية فيما يتعلق بالأسرة المغربية، وكذلك عن اللغة العربية، والقضايا الإسلامية والوطنية عموما.
ونظرا لحقد تلك الجهات، التي أصبحت تحاول نقل النقاشات البينية من صراع فكري إلى صراع قضائي، فقد استفحلت وأرادت استحضار تاريخ موهوم، لنقل الحوار من شخص واحد، إلى الإساءة لعائلة بأكملها؛ وهي العائلة الكتانية، ممثلا في أعلامها ورموزها وطريقتها.
وللأسف انجر لتلك الدعاية أحد من كان يظهر الود لنا، ويتواصل معنا، ثم قلب علينا ظهر المجن، ثم تبعه شخص آخر محسوب على الحركة الإسلامية، وإن كانت مقالاته تشرعن الأفكار العلمانية، وتهدم الشريعة فيما يبثه من جهالات يسميها فتاوى.
فقد تعنتر المسمى حسن العقاد، في حوار شخصي بينه وبين إحدى المنابر، وزعم أن الشيخ تقي الدين الهلالي أخبره (علما أن الهلالي لما توفي كان المذكور دون العشرين من عمره)، أن الحافظ الشيخ عبد الحي الكتاني أخبره أن الطرق الصوفية إنما تأسست لجمع المال، وأن الطريقتين الكتانية والتجانية كذلك تأسستا لذلك، فلما سأله: “لماذا أنت شيخ طريقة كذلك؟”. أجابه: “أخي من أسس الطريقة ولست أنا”.
قلت: وهذه كذبة صلعاء حمقاء من تقي الدين الهلالي، وتصرف أرعن مؤذي من حسن العقاد، وعمل غير مهني ومحرض من المنبر الإعلامي الذي روج لذلك المقطع ونشره في مواقع التواصل.
ولما كتبت معاتبا للعقاد، ومبينا كيف كان يكتب إلينا، وكيف تجرأ لنقل الكذب وتشويه سمعة أعلام المغرب وأئمته، وقادة المدارس الروحية فيه، انتصر له المدعو أحمد كافي، وكتب كتابة مطولة، مليئة بالضغينة، وفتح أمورا تدل على حقد دفين، وعدم فهم، وتحامل، فالله حسيبه. وانهالت التعاليق في صفحته تطعن في جميع الطرق الصوفية، وتسيء إليها؛ مما يرسخ لقوة انبتات القوم عن دين وطنهم، ورموزه، وثقافته، وانسلاخهم من عاداته وتقاليده، ما يجعلهم أجانب في بلادهم، نسأل الله السلامة والعافية.
وعلى كل؛ فإن كافي أراد أن يبرئ صاحبه العقاد، ويثبت النص المنقول عن تقي الدين الهلالي، باعتباره حجة فيما يقول، وهو لا يحتاج لذلك؛ لأن كلام الهلالي موجود في كتابه: “الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية”. ولا حجة له في ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع”. فلا عذر للعقاد في ذلك النقل؛ لأن ناقل الباطل، ولا يبين بطلانه؛ هو بمثابة المشيع له.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى؛ فمن قال بأن تقي الدين الهلالي ثقة فيما يقول، وهو قد كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فادعى النسبة الحسينية، ولا حجة له في ذلك، وبنو هلال معروفون أنهم عرب، ولم يدعوا قط النسبة الحسينية، ولا ادعاها قومه، ولا ذكرت في كتاب معتمد لأنساب السجلماسيين. هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في المتواتر: “من كذب علي متعمدا؛ فليتبوأ مقعده من النار”. وقال: “إن كذبا علي ليس ككذب على أحد”. وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: “من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا”. فليس بعد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن هذا حاله من حكم ولا مقال.
ثم من سيرته؛ معروف أنه كان تيجانيا قحا، ولكنه في تلك الفترة كان ينظم أشعارا ومقالات مليئة بالتغزل بالغلمان، والتشبب، والمثلية، نسأل الله السلامة والعافية، وقد وقفت على ذلك بخطه في مراسلاته مع الأديب عبد الكريم سكيرج، وربما كان ذلك سببا باطنيا لانسلاخه من طريق أهل الله، وتركه التدين بالكلية.
ثم ذهب إلى ألمانيا، واشتغل مع المخابرات الألمانية مدة عبر الإذاعة الرسمية للبلاد، ثم ذهب للهند، ومكث مدة هناك تحت الاستعمار البريطاني، ثم للعراق، ثم عاد بطريقة غريبة للمغرب حيث وجد في شفشاون، وزعم البعض أنه نزل بمنطاد.
ومنذ حل بالمغرب؛ ولا شغل له إلا محاربة الطرق الصوفية، ومشاكسة العلماء، بحيث كان مبغوضا بينهم، وأذكر وأنا صغير يسميه العلماء: “شقي الدين”. لما ينسبونه إليه من سوء أخلاق، وطعن في الأفاضل. وكان حينذاك عبدويا، زعم أنه تحول عبدويا على يد الشيخ محمد بن العربي العلوي، وبالرغم من ذلك؛ اتفق مع الشيخ أحمد بن الصديق، شيخ الطريقة الصديقية الدرقاوية، أن لا يرد عليه ولا يحاربه، بعد أن أولم له وليمة ضخمة، كما في كتابه “الدعوة إلى الله”. مما يدل على أن وليمة من الطعام جعلته يتنازل عن مبادئه.
ثم تحول سلفيا على الطريقة الوهابية، وذهب يدرس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكان من أشد الوهابية هناك، أشد من النجديين، على مذهب: “إذا رأيت الناس يعبدون الحمار فعليك بالحشيش”. غير أنه – حسبما أخبرني شيخنا العلامة أحمد شريف حنوش رحمه الله تعالى، وبلغني من غيرما جهة – أفتى بوجوب هدم القبة النبوية الخضراء في المدينة المنورة، باعتبارها من مظاهر الوثنية والشرك، وبالفعل خرجت من درسه مظاهرة للطلاب، تطالب بذلك، فتدخل الأمن، وكان ذلك سببا في طرده من السعودية، ورجوعه للمغرب.
ولما عاد للمغرب؛ انخرط في دار الحديث الحسنية، وبدأ يدرس فيها ويبث سمومه، إلى أن حصل مرة وطعن في فاتح المغرب الإمام مولانا إدريس الأكبر رضي الله عنه، فقام له من وسط الدرس العلامة محمد الزيزي رحمه الله، وصفعه صفعة سقط منها. أخبرني بذلك الدكتور يوسف الكتاني، والعلامة القاضي بالمجلس الأعلى محمد عبد الرحمن الكتاني، وكانا حاضرين، وجمهرة رووا ذلك عن الزيزي مباشرة. فكان آخر يوم له في الكلية ولازم حينذاك بيته. وبلغني أن الملك الحسن الثاني ضحك كثيرا لما بلغه الخبر.
ومن يطلع على كتبه؛ خاصة: “الدعوة الإسلامية”، و”الهدية الهادية”؛ يجزم أن هذا الشخص غير سوي، نظرا لطعنه في جميع الناس، وتتبعه للعورات، وتحقيره للأكابر، واستهزائه بغرمائه، وهي أمور لا تكون من شخص سوي العقل، معتدل المزاج.
تقي الدين الهلالي لم يكن يعتبر من كبار علماء المغرب، فهو لم يتخرج من جامعة القرويين، ولا من روافدها، ولا عرف بمناصب التدريس والإفتاء في المغرب؛ إلا ما كان في آخره بصفته واعظا، وفي وقت كانت الدولة تشجع فيه التيار السلفي في البلاد، وكان حينذاك يرسل المنح الكثيرة للسعودية؛ ليعودوا وينشروا الفكر الوهابي في البلاد، وهاهي كتبه العلمية وفتاواه منتشرة، إذا استثنينا ما يرجع منها للغة؛ فإنها عادية جدا، بل هزيلة.
نعم حاز درجة الدكتوراة من أوروبا، الله اعلم كيف كان ذلك، وكان يتقن لغات، وكان مثقفا ثقافة واسعة، وله دراية قوية خصوصا في اللغة، ولكنه لم يكن معدودا من كبار علماء المغرب، إنما معدود من مثقفيه وكتابه.
على كل؛ قد توفي نسأل الله له الرحمة والمغفرة، ولكن من كانت هذه صفته؛ لا عبرة بكلامه، ولا حجة فيه، خاصة عندما يمس الأخيار، الذين أعطوا للمغرب سمعة عظيمة في مختلف العلوم، والتربية، وفي الفكر السياسي والإصلاحي، وقاموا بالدعوة إلى الله، وبذلوا في ذلك ما كلفهم أموالهم وأعمارهم.
ولنعد للخبر نفسه الذي نقلاه عن الهلالي، وروجا له؛ ألا يعرف الكاتب من هو الإمام أبو الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني الشهيد؟، ألا يعرف من هو الحافظ العلامة عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني؟. هذان اللذان بذلا كل عمريهما وأموالهما وجاههما في خدمة الإسلام والمسلمين، فقضى الأول شهيدا، والثاني مبعدا، هذان العلمان البارزان اللذان كانا يعتبران مقدسين؛ هل يستحقان منا كل ذلك الجفاء؟.
الجزائريون عظموا الأمير عبد القادر الجزائري ونصبوا له الأنصاب، والتونسيون عظموا العلامة الطاهر ابن عاشور وخدموا تراثه، والمصريون عظموا عرابي باشا ومحمد عبده واعتبروهما رمزا للوطن، والسوريون عظموا الشيخ بدر الدبن الحسني واعتبروه المحدث الأكبر، أما المغاربة؛ فلما أعطاهم الله رجالا جمعوا ما تفرق في غيرهم؛ غمطوهم مكانتهم، وتتبعوا البحث عن زلات موهومة لهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أذكر القارئ الكريم؛ أن الشيخ أبا الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني الحسني رضي الله عنه؛ يعتبر أبا الحركة الوطنية الإسلامية المغربية، كما صرح به الأستاذ علال الفاسي في “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، ومؤسس أول حركة دستورية في البلاد، والداعية الأول للجهاد في مختلف أصقاع البلاد، ومؤسسا للصحافة المغربية الوطنية؛ كما صرح بذلك العلامة محمد المنوني في المجلد الثاني من “مظاهر يقظة المغرب الحديث”، والأخ أحمد كافي، باعتباره شاويا مزابيا؛ يجب أن يعرف الدور العظيم الذي قام به الشيخ أبو الفيض لتثبيت الإسلام في الشاوية وغيرها من المناطق، حتى إنهم في زمور كانت المرأة تعير الأخرى: “سيري يا المصلية”، فتجيبها: “الصلاة لم تكن لأبي ولا جدي؛ حتى جاء الكتاني وعلمنا”. وكنت حاضرا في مجمع من الفضلاء، وكان فيهم تاجر كبير، فقال: “نحن أهل زعير كنا كفارا؛ حتى جاء الكتانيون وأدخلونا للإسلام”. لا شك أن في هذا شيئا من المبالغة؛ ولكنه واقع في كثير من المناطق النائية التي لم تكن تصلها الدولة ولا الدعاة. حتى إن مناطق في البربر كانوا لا يعرفون النطق بالشهادتين؛ فلما جاءهم الشيخ أبو الفيض وأعلام طريقته، نشروا فيهم الدين والعلم والسنن، فشيدت المساجد، وملئت الزوايا، وهذه أعمال استمرت عقودا كثيرة، ولم تكن نتيجة زيارة يوم أو يومين.
الشيخ أبو الفيض جدد على المستوى العلمي، والفكري، والفلسفي، والعرفاني، والسياسي، بما هو مبثوث في الكتب والمؤلفات التي تطرقت للتاريخ المعاصر للمغرب، وفي كتبه الكثيرة التي زادت عن الثلاثمائة، ورسائله التي ربت عن المائة ألف، وهذه الأعمال لم يتشرف بها حتى من سبقه من شيوخ التصوف والإصلاح؛ كمولاي العربي الدرقاوي، وسيدي أحمد التجاني، وسيدي أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي، وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي، وأبو المحاسن الفاسي، وسيدي بوعبيد الشرقي، وأمثالهم من العظماء رضي الله عنهم.
فهل مثل هذا الإمام يقال عنه بأنه أسس طريقة لجمع المال؟. وأي مال جمع، وأي ميراث تركه لأبنائه؟.
ليكن في علمك أن الشيخ أبا الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني لما أسس الطريقة الكتانية؛ كان ينتمي لإحدى أكبر الأسر الشريفة في المغرب، وكان من علماء الطبقة الأولى، وعضوا في مجلس الشورى، وكذلك والده جبل السنة والدين الشيخ عبد الكبير الكتاني، وخاله الشيخ جعفر بن إدريس الكتاني كان كبير علماء المغرب، ومرجع ملوكه في الفتيا، ورئيس مجلس الشورى في عهد المولى الحسن الأول، وكان يلقب بشيخ الإسلام، وكذلك ابنه الإمام محمد بن جعفر الكتاني؛ كان كبير العلماء في وقته ويلقب بذلك أيضا. فأي حاجة للشيخ أبي الفيض أن يجمع مالا أو جاها وقد سيقت له الدنيا بحذافيرها منذ ولادته؟.
وليكن في علمك أيضا؛ أن الشيخ أبا الفيض قدس سره؛ لما استشهد كان ابن سبعة وثلاثين عاما فقط، ولما توفي لم يكن له منزل يسكنه، كما قال ابن عمته العلامة عبد الحفيظ الفاسي الفهري في ترجمته “رياض الجنة”، بحيث اضطرت أسرته لأن تقيم مدة في منزل صهرها العلامة الطاهر بن عبد الكبير الفاسي الفهري، رحمه الله.
فهل الذي يقود مشروعا ضخما كذاك، ويموت وليس له منزل يؤوي فيه أسرته، يقال عنه أسس الطريقة لجمع المال؟. أي مال جمع؟.
ولما انتقل أبناء الشيخ ابي الفيض لسكنى الرباط؛ الشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الباقر والشيخ إبراهيم؛ لم يكن لهم مسكن يسكنون فيه، حتى أعطاهم أحد الأثرياء من مريدي الطريقة، منزله ليسكنوه مدة إقامتهم، فبقوا فيه عشر سنوات، ثم انتقلوا لمدينة سلا، وسكنوا جميعا بأسرهم وأبنائهم في رياض معروف قرب المسجد الأعظم، كان أوقفه بعض الفضلاء لهم، إلى أن اتسعت أمورهم قليلا فانفرد كل منهم ببيته.
وبالرغم من ذلك؛ فإن الشيخ إبراهيم الكتاني أوقف المنزل على أبنائه الثلاثة، وإذا ماتوا يصبح وقفا على الزاوية الكتانية، وكذلك الشيخ محمد المهدي أوقف منزله على الزاوية الكتانية، ولم يتركوا شيئا يذكر. وحتى الشيخ محمد الباقر الكتاني توفي ولا يملك سوى المنزل الذي يسكنه. كلهم أوقفوا حياتهم للدعوة إلى الله، وتعليم الناس وإرشادهم، والدفاع عن القضايا الإسلامية، وإيواء المنقطعين، وإرشاد التائهين، وتعليم الجاهلين، وإطعام الطعام، وكسوة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وهذا يعرفه كل من عاشرهم رحمهم الله تعالى…لم يكنزوا كنوزا، ولا عمروا عمارات، حتى ما أوقفه الناس لهم من الأوقاف تركوها في سبيل الله، ولم يستفيدوا منها شيئا. ومن خلفهم من أبنائهم؛ من تعلم منهم ونال شهادات عليا، أو وفق في عمله؛ عاش في ستر وكفاف، ومن دونهم؛ فهم في عامة الفقراء.
فماذا استفاد الكتانيون – ماديا – من الطريقة؟. إنما فائدتهم كانت مع الله تعالى وليس مع العباد.
أما الشيخ الحافظ عبد الحي الكتاني؛ فيرحم الله أستاذنا الدكتور أحمد شوقي بنبين، قال لي: “طول مسيرتي العلمية، في أي بلاد زرتها؛ لا يسألني الناس عن أي عالم مغربي؛ إلا عن الشيخ عبد الحي الكتاني”. ولله در الدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله، فقد كان يقول: “لولا مكتبة الشيخ عبد الحي الكتاني؛ لكان وضع المغرب معيبا في العالم؛ هو الذي أعطانا قيمة ثقافية بين الأمم”.
فقد اجتمع فيه ما تفرق في غيره، بين العلماء هو أعلمهم، بين الصالحين هو أصلحهم، بين الشيوخ هو رئيسهم، بين السياسيين هو أحدهم، بين المثقفين هو قبلتهم، حتى قال فيه أحد الصحفيين البريطانيين برنارد نيومان: “يحس الإنسان أثناء الحديث معه أنه أمام حكمة تعود إلى عصور خلت، في بعض لحظات الحديث؛ كنت أحس وكأنني أصغي إلى النبي موسى”. وقال فيه: “أكبر علماء المغرب، كان يحتل مرتبة عالية بين علماء المشرق، وقد سبق له أن ألقى الخطبة الكبرى في مكة (ربما يقصد يوم عرفة) واستقبله البابا بتشريف كبير، وهو على رأس الطريقة الكتانية؛ وهي تعادل تقريبا رتبة دينية مثل اليسوعيين أو الفرنسيسكان…يأتي إليه الحجيج من مناطق بعيدة من حدود المغرب، طلبا لبركته. عندما يسافر فإنه يستقبل باحتفاء وتشريف كبير في عشرات البلدان، وعلى الرغم من أنه لم يظهر غضبه أبدا كما هو معروف؛ إلا أن أعداءه كانوا يخشون هيبته وثأره!”.
هذه نبذة موجزة كتبها كاتب بريطاني كبير حول هذا الرجل العظيم، الذي جاهد طول حياته لنشر العلم والدين بين الناس، وقد وقفت له على رسالة يصف إحدى زياراته لأبي الجعد ومنطقة تادلا، تلك الزيارة التي استمرت بضعة أشهر، فتح فيها مساجد، ورافقه فيها نحو مائة فقيه ليعلموا الناس أمور دينهم، ويمكن مطالعة رحلته التي طبعتها المكتبة الملكية حديثا في نحو خمسمائة صفحة، وما هي إلا نموذج من مئات الرحلات التي كان يجوبها عبر المغرب للحفاظ على الإسلام والدين والعروبة.
لقد وقف وقفة شديدة ضد الفهم السيء لخطاب 1948، الذي يدعو لتحرير المرأة، وفي وقت كانت الأحزاب الوطنية تدعو النساء لخلع الحجاب، والتبرج، ويفتي لهم فقهاء السوء بذلك؛ كان الشيخ عبد الحي معترضا أشد المعارضة لذلك، فألف وكتب، واضطر للحراك الاجتماعي والسياسي الذي انتهى بمحنته الكبرى المعروفة.
لقد كان أحد العلماء القلة الذي يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، وشن حملات شرسة ضد التغريب والفرنسة، حتى ألف ضده بعضهم كتابا بعنوان: “نصب المتارس؛ للذب عن أبناء المدارس”. يقصد: المدارس الفرنسية. وتسبب موقفه هذا في جفاء كبير بينه وبين الحركة الوطنية، التي كانت تطالب بالقوانين الوضعية، مما تسبب في نفور كبير بينهما.
كما أنه – بحسب بعض الكتاب اليهود – وقف وقفة كبيرة ضد مشروع تهجير يهود المغرب لفلسطين، واعتبر أن ذلك مساهمة في احتلال أرض الإسلام، وتمكين أعدائه منه، وخدمة للأجندة البريطانية في تهجير اليهود المحليين، وإدخالهم في حروب لا حاجة لهم فيها، من أجل أطماع امبريالية غربية.
الذي يعنيني هنا؛ هو: أن الشيخ عبد الحي الكتاني بالرغم من كونه كانت له تجارة واسعة، حتى قبل المشيخة؛ إذ كان متصاهرا وشريكا لكبار تجار فاس، الذين هم عصبة الاقتصاد المغربي، بالرغم من ذلك؛ فإن مكتبته التي جمعها طول حياته هي ومنزل سكناه؛ جعلهما وقفا ولم يكونا ملكا له، مفتوحا لعموم المسلمين، وأوقف لإصلاحها وترميمها، منزلين آخرين، وجل أملاكه كان جعلها لأعمال الخير، بل منزله نفسه كان مأوى للكثير من العلماء والمنقطعين؛ منهم: العلامة عباس بناني، والعلامة عبد القادر ابن سودة، وغيرهما، عدى من كان قاطنا به من طلبة العلم والعلماء المنقطعين للبحث؛ كمحمد بن أبي بكر التطواني، ومحمد داود، وعلال الفاسي، ومحمد المنوني، وأضرابهم ممن خدموا المغرب في مختلف المجالات.
ولما توفي؛ لم يترك لأبنائه شيئا يذكر، خاصة بعد المحنة التي أصابته لله وفي سبيل الله، وزورها المؤرخون، وشوهوا مضمونها، فكانوا كلهم عصاميين، ترك لهم العلم والأخلاق، والقوة وحسن الأحدوثة، فكل من أنجز منهم شيئا فإنما كان ذلك بكده وسعايته، لا بأموال طريقة، ولا أوقاف مريدين.
وقد كان شيخنا مسند العصر سيدي عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني رحمه الله تعالى، تواصل معه بعض آل أمحزون، أخوال الملك محمد السادس حفظه الله، وكانوا جلهم في الطريقة الكتانية، فأخبروه أن أرضا من أراضي والدهم في خنيفرة وقف على الشيخ عبد الحي الكتاني وذريته، فلما حازها؛ أوقفها لبناء مسجد، ورفض حيازتها، زهدا منه، واحتسابا لله تعالى، وهو في أمس الحاجة للمال حينها.
هذه بعض صور زهد شيوخ الطريقة الكتانية، وخدمتهم للأمة، واحتسابهم في كل ذلك لله تعالى، وكل من كان له ملك؛ فجل ذلك من تجارات بسيطة، أو مقابل أعمال يستحقون الأجرة عليها، وهي قليلة، أو عقارا كان لا قيمة له؛ فأصبح مع تطور العمران ذا قيمة، وذلك قليل أيضا، وجل ما ذكرته؛ ينطبق على شيوخ طرق أخرى كالدرقاوية والقادرية مثلا…
هذا؛ وما العيب في تمويل العلماء الربانيين المتفرغين لتربية الناس، والدعوة إلى الله، وبث العلم؟. خاصة إذا كانوا من أهل البيت الذين فرض الله لهم الخمس في المداخيل؟. وكيف يتمشى مشروع أو يتقدم وينجح إذا لم تصرف عليه الأموال، وتوقف الأوقاف، هذا والمال هو عصب الحياة؟. ونخن نعلم أن كل موظف إنما يعمل بأجرة، علا منصبه أو نزل، فكيف نطالب العلماء والدعاة أن يتفرغوا للتدريس، والوعظ والإرشاد، والدعوة إلى الله، والسفر من أجل ذلك الأيام الطويلة، واستقبال آلاف الناس، وإطعام الطعام، وإيواء المنقطعين، والتوسط في مصالح المسلمين، وحل مشاكلهم، والتأليف والتدوين والإفتاء؛ كل ذلك بالمجان، وبغير ضمان مدخول قار لهم؟. غريب هذا المنطق، فهو منطق ديماغوجي؛ وهل كان تقي الدين الهلالي يعمل في ألمانيا أو الهند، أو السعودية أو المغرب بالمجان، أم كان يتقاضى على ذلك؟. وهل كان يعلم الناس في مكناس بالمجان أم كان يتقاضى على ذلك؟. وهل كان زعماء الحركات الإصلاحية والدعوية، والمؤسسات الخيرية، والجامعات والمعاهد، المتفرغون للعمل فيها، يعملون بالمجان، وبدون رواتب ولا أوقاف؟. مالكم كيف تحكمون؟.
وهل أنت يا سي أحمد كافي، وصاحبك حسن العقاد؛ تعملان بالمجان أم تتقاضيان على أعمالكما؟. أم هو حلال عليكما حرام على غيركما؟. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أسأل الله تعالى أن يعفو عنا ويرحمنا، ويغفر لنا زلاتنا…والسلام…