
منذ أن أعلنت الكتابة في هذا الموضوع، انبرى البعض إلى القول أن فيه استفزازا ،و قال البعض الآخر إنها خطوة غير محسوبة قد تثمر نتائج غير مرضية ، وسكت آخرون على عادتهم ينتظرون العثرات في الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية، بينما لقي الموضوع من آخرين تشجيعا وتنويها وهم أهل الحوار والنقاش والكلام الرصين المفضي في النهاية إلى إغناء الفكر وإحياء طرق النظر والوصف للواقع الاجتماعي و السياسي و الثقافي…
والحق أن القضية غير بعيدة عن ثقافتنا، وقصتها تشبه إلى حد كبير ماقاله الإمام الصادق ،المجاهد العالم العامل، صاحب التصانيف والرحلات ،جامع الحديث والفقه، والعربية، الشجاع السخي ، عبدالله بن المبارك ،عندما خاطب الفضيل بن عياض:
يا عابد الحرمين لو أبصرتتا
لعلمت إنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خذه بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب.
ومعناه أنه إذا كنت تبكي في الليل، فنحن دماؤنا تسيل علينا من نحورنا من الضرب في سبيل الله، والدم أغلى من الدمع…
والقصة وإن كان فيها نظر، فقد شاعت واشتهرت للتدليل على أهمية الجهاد في حينه بترك الناس والقرطاس، والمسجد والمعبد.
مثلها مثل قصة العالم المغربي الجليل أبي عبدالله محمد بن يحيى البهلولي، فلقد ذكر صاحب كتاب “الدوحة ” الشيخ أبو عبدالله بن محمد بن عسكر قال:
حدثني الفقيه العدل أبو العباس أحمد الدغموري القصري، قال: كان أبو عبدالله يقول، ماغزونا غزوة قط إلا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ” وله رضي الله عنه في شأن الجهاد والرجولية حكاية طريفة، وهي أنه غزا مرة غزوة إلى الثغور الهبطية، ثم قدم منها مع أصحابه، فوجد زوجته بنت الشيخ أبي زكريا يحيى بن بكار قد توفيت ،وصلى الناس عليها بجامع القرويين وإمامهم الشيخ غازي بن الشيخ أبي عبدالله محمد بن غازي الإمام المشهور، فوصل الشيخ أبو عبدالله ووجد جنازتها على شفير القبر والناس يحاولون دفنها ، فقال لهم: مهلا، ثم تقدم وأعاد الصلاة على الجنازة بالجماعة مع أصحابه، فبادر الناس إليه بالإنكار في تكرير الصلاة على الجنازة بالجماعة مرتين ،فقال لهم على البديهة: ” صلاتكم التي صليتم عليها فاسدة، لكونها بغير إمام، ” فقالوا له: كيف ذلك يا سيدي؟ قال: لأن شرط الإمامة الذكورية، وهي مفقودة في صاحبكم ،لأن الذي لم يتقلد سيفا في سبيل الله قط، ولم يضرب به، ولا عرف الحرب، كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يتعبد بالسيرة النبوية، فكيف يعد إماما ذكرا، بل إمامكم والله من جهة النساء “
رحم الله علماءنا الكرام، وأجرهم الله على تأويلاتهم وفهومهم، وأبقاهم دائما نبراسا لهذه الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ، فلكل استنباطاته واستنتاجاته انطلاقا من فهم الواقع والمسار التاريخي، والتحديات المطروحة عليه وعلى بلده خاصة، وأن العدو كان لا تغمض له عين حتى يستولي على ثغر من الثغور ،أو باب من الأبواب،كما كان يحصل في بلاد المغرب خاصة عند نهاية حكم الدولة المرينية، وصعود الدولة الوطاسية التي حكمت المغرب مع الدولة السعدية ،وهو الوقت الذي تكالب فيه الإسبان والبرتغال على غزو المغرب و الاستيلاء على ثغوره المشهورة.
ويبقى في نظرنا أن الكل مجاهد ، والجهاد فيه الأصغر والأكبر، وذلك بحسب الإكراهات المطروحة ، والالتباسات المطوقة للحياة عند المسلمين والتي تترواح بين الضعف والقوة.
فاليوم مثلا، الجهاد المطلوب ليس الغزو، ولكن المطلوب هو مناهضة التخلف والسعي للارتقاء بأساليب الحياة، وانتزاع حق الحياة بكل احترام وكرامة.
الجهاد اليوم ليس أن نموت في سبيل الله، بل الجهاد اليوم أن نحيا في سبيل الله.
الجهاد آليوم ليس المبايعة على الموت ، بل المبايعة على آلحياة في سبيل الله.
الجهاد اليوم هو التحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية، وصولا إلى نهضة تنموية تحقق للشعوب كرامتها.
قال العلامة بن مرزوق للشيخ محمد أبي عبدالله الورياغلي، وقد عزم على الرحلة إلى بلاد المشرق في طلب العلم ” ليس أمامك أحد أعلم منك” قال،فرجع من هنالك، فوجد النصارى قد تغلبوا على طنجة وأصيلا، فلازم الثغور الهبطية لأجل الرباط والجهاد في سبيل الله، وبث العلم ونشره.
قال:” وكان عادته أن يشتغل بالتدريس في فصل الشتاء والربيع، ويخرج في الصيف والخريف ،فيرابط في ثغور القبائل الهبطية. ،”
رحم الله علماءنا وأخيارنا وكل من له حق علينا.