
لقد جاء القرآن خاتمة الرسالات وبعث محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وخاتم المرسلين، فوضع منهجا لإخراج البشر من ظلمات الكفر والجهل والظلم إلى نور الإيمان والعلم والعدل، وقد خص القرآن أمة بني اسرائيل بمساحة كبيرة باعتبارها الأمة التي ورثت الكتاب والنبوة لكنها نقضت العهود والمواثيق كما قال تعالى (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)
وقوله سبحانه ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون)
وهكذا تركوا أمر الله وضيعوه . ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك ، فكتموا ، وكذبوا الرسل، واشتروا به ثمنا قليلا ،أي وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، عوضا منه خسيسا قليلا من عرض الدنيا..فشرع القرآن يذكرهم بنعم الله عليهم والمعجزات التي جرت على يد رسلهم وكيف قابلوا ذلك بالجحود والعصيان فعاقبهم بألوان من العقوبات متوعدا إياهم بالمصير نفسه إذا هم عادوا لفسادهم وعلوهم وظلمهم.
فالمتأمل في سورتي البقرة وآل عمران يلحظ هذه المداخل الثلاثة التي تضع بين أيدينا منهج القرآن في معالجة اعوجاج أمة بني اسرائيل:
1) المدخل الأول: تذكيرهم بنعم خصهم الله بها المفروض أن يقابلوها بالشكر، وهي كثيرة، نذكر منها إنجاؤهم من بطش الفراعنة (وإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ؛ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) ومنها إظلالهم بالغمام والمن والسلوى التي كانت تأتيهم طعاما دون عناء ولا مشقة ( وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ) ومنها تفجير العيون بالماء الزلال كما قال تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ومن أعظم نعم الله على بني اسرائيل التي تكرر ذكرها في القرآن اختيارهم على العالمين وتفضيلهم على الإمم التي سبقتهم كقول موسى عليه السلام لهم : ( يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين )
والمقصود بالتفضيل هم بنو إسرائيل في الزمن الأول حيث كان فيهم الأنبياء والأحبار والتمسك بالدين والطاعة لله واتباع الرسل ففضلهم الله على عالمي زمانهم.
وقال تعالى ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون)
ولما انحرفوا بعد ذلك ضرب الله عليهم الذلة ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.
2) المدخل الثاني لمعالجة اعوجاج أمة بني اسرائيل تذكيرهم بما جرى من معجزات على يد رسلهم فرأوها، مثل انفلاق البحر على يد نبيهم موسى عليه السلام وقلب عصاه حية تسعى وتفجير الماء لهم، وهذا كان في زمن موسى عليه السلام، وبقيت هذه المعجزات شاهدة على صدق من أرسل الله إليهم من الرسل لكنهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون فوبخهم القرآن بقوله (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)؟!
وختم الله أنبياء بني اسرائيل بعيسى بن مريم عليه السلام وجرت على يديه معجزات باهرات (وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
وقد سعوا في قتله هو أيضاً فأنجاه الله ورفعه إليه..
3) المدخل الثالث لمعالجة اعوجاج أمة بني اسرائيل تذكيرهم بالعقوبات التي كانت تعجل لهم إثر نكوصهم وعصيانهم، نذكر بعضها:
– منها التوبة من عبادة العجل بقتل نفوسهم (إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
– ومنها مسخهم قردة وخنازير بسبب تلاعبهم بأحكام الله وتحايلهم على الصيد يوم السبت (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)
– ومنها تحريم الأرض المقدسة عليهم بعد نكوصهم وجبنهم عن مقاتلة الجبارين بأمر رسولهم موسى عليه السلام (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ؛ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)
– فلما (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) جاءت عقوبة الله لهم (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)
فالحاصل أن القرآن الكريم يذكر بني اسرائيل بنعم الله عليهم والمعجزات التي جرت على مرآى منهم ثم بالعقوبات التي كانت تعجل لهم إثر عصيانهم، وكل هذا رحمة بهم لعلهم يذكرون ويصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما يجدونه في كتبهم من أوصاف وعلامات تدل على صدقه..
فهذه سنة الله في أمة بني اسرائيل وهذا منهج القرآن في معالجتهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قال فريد الأنصاري رحمه الله ما معناه : هزائم الأمة اليوم أنها لا تنطلق من القرآن الكريم في تعاملها مع اليهود.