رأي

تقديم المسيري كتاب “اليهود أنتربولوجيا” لجمال حمدان رسالة إلى النخب الجامعية زمن الاستضعاف

الدكتور الحسن الباز أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية متقاعد جامعة ابن زهر أكادير

كل من قدر له حضور فعالية علمية يستمع فيها إلى المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري، ينقدح في ذهنه وينطبع في وجدانه تقدير خاص لهذا الرجل ، ليس فحسب لسحر بيانه وعمق تفكيره وتركيبية تحليله، ولكن أكثر من ذلك لكونه أفنى شطرا كبيرا من حياته لخدمة مشروع فكري في منظومة الاستعداد لمواجهة التحدي والاستضعاف الذي يمارسه التغول الصهيوني على الأمة الإسلامية والكيان الآدمي، فأنجز في هذا السياق أعمالا أبرزها “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، التي بدأها منذ منتصف سنوات السبعين وأنهاها في نهاية سنوات التسعين من القرن الماضي.


ولكن اكتشاف الأرقام السرية الأولى التي وجهته إلى هذا المشروع سنجده في كتاب آخر له أصغر حجما هو “اليهود في عقل هؤلاء” ، وقد خصص الفصل الرابع منه لجمال حمدان في ما يقرب من 42 صفحة، ( ص 75-116)، والفصل الخامس لروجيه غارودي في 27 صفحة، ( ص 117-143.)
والدكتور جمال حمدان مفكر مصري درس في بريطانيا، وحصل على الدكتوراه من جامعة (ريدنج) في فلسفة الجغرافيا، وعمل أستاذا في الجامعة المصرية من سنة 1953 إلى سنة 1969، وكان يتعامل مع الجغرافيا باعتبارها فلسفة، وأطلق النظريات حولها، ولم يكتفِ بتدريسها، وكان تقديره لها عميقا.

قدم جمال حمدان استقالته عام 1969 مستنكرا عدم تقدير مجهوده الأكاديمي، وتفرغ لإنجاز مشروعه العلمي عن “شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان”، الذي عكف على كتابته عشر سنوات بين سنتي 1975و1984، ونشر في أربع مجلدات. واعتبر كثيرون أن “شخصية مصر” هو أفضل ما كُتب عن هذا البلد، وأنه قصيدة في عمق أرض الكنانة.


ومع إرثه العلمي الكبير، لم يحظ جمال حمدان بالتقدير الكافي في حياته، فعاش على الكفاف زاهدا في شقته المتواضعة، التي مكث بها السنوات يقرأ ويبحث ويقدم للبشرية أعمالا في التحليل الاستراتيجي والرؤية المستقبلية والبحث الأنثربولوجي، وصياغة كل ذلك في سياق عام متناسق، حيث ألف كتبا ومقالات ودراسات عن الجغرافية والسياسة والاستعمار، وكانت قضية فلسطين همه الأكبر. ومن مؤلفاته: بترول العرب 1964-استراتيجية الاستعمار والتحرير 1968-افريقيا الجديدة 1975، ضمن رصيد بلغ 39 كتابا، و79 بحثا.
وقد نال جائزة التقدم العلمي من دولة الكويت سنة 1992، ووسام العلوم من الطبقة الأولى عن كتابه “شخصية مصر” عام 1988.
وظلت واقعة رحيله بتاريخ 1 أبريل 1993 في ظروف غامضة لغزا مسكوتا عنه، حيث كذب البعض اشتعال النار في جسده أثناء تسخينه للطعام، بل هناك علامات كدمات على رأسه توحي بأنها السبب في الوفاة، بعد أن شك كثيرون في رجل وامرأة أجنبيين سكنا الشقة التي تعلوه قبل شهر ونصف تقريبا من الحادثة، واختفيا تماما بعدها مع وجود ترجيحات أنهما إسرائيليين.
وكان يستعد لكتب اعتبرها الأهم في حياته، هي: “اليهود والصهيونية”، و”العالم الإسلامي في الاستراتيجية العالمية”، و”العلوم والجغرافيا”، واختفت هذه الكتب بشكل تام بعد رحيله، وهو ما يزيد الشك تجاه العدو الإسرائيلي وجهاز الموساد بالتسبب في مقتله.( حسن هدير، ميلاد جمال حمدان” شخصية مصر” الذي ظل رحيله غامضا. موقع العين الإخبارية، 2/2/2023،5.19 بتوقيت أبو ظبي.)
يقول المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري عن كتاب جمال حمدان “اليهود أنتربولوجيا” : ” قرأت هذا الكتاب حينما كنت أكتب موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية، التي صدرت عام 1975. كنت أحس نحوه بالإعجاب الشديد سواء في أسلوب كتابته أو أسلوب حياته: هذا الزهد العلمي الشديد، هذا الإعراض عن الدنيا الذي مكنه من إنجاز بعض جوانب مهمة من مشروعه المعرفي الضخم (ولعل هذا هو الذي شجعني على الاستقالة من الجامعة؛ لأنجز مشروعي المعرفي.) ومن المفارقات التي تستحق التأمل، أن هذا الأستاذ الجامعي الذي ترك الجامعة، والمثقف الذي اعتزل الحياة الثقافية، قد ألقيا بظلالهما على كل من الجامعة وحياتنا الثقافية.” (د. عبد الوهاب المسيري، اليهود في عقل هؤلاء، ص77.)
وبعد أن تحدث المسيري عن مشروع جمال حمدان وعمقه وأهميته وخصائصه، وما أنجز منه وما لم ينجز، عاد للحديث عن كتابه” اليهود أنتربولوجيا”، وهو كما يصفه: ” عنوان الكتيب الذي ألفه هذا العبقري الفلتة. وعلى الرغم من صغر حجم الكتيب، فإنه يبلور كثيرا من أفكاره وآرائه. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في إطار منظومته الفلسفية والسياسية ومنطلقاته الفكرية.” ( م س ص 81 ).
ويورد المسيري ما كتبه في تقديم هذا الكتاب لما نشر في سلسلة كتاب الهلال بعنوان “اليهود”، ويصلح أن يكون تقديمه هذا رسالة موجهة إلى الباحثين الأكاديميين والنخب الفكرية التي تمثل العقل الجمعي للأمة وقلبها النابض، خاصة ونحن في مستهل سنة جامعية جديدة، سيكون لها ما لها، وعليها ما عليها. ويقول في هذا التقديم:
” هذا الكتيب، مثل كل كتابات جمال حمدان، ليس دراسة أكاديمية بالمعنى السلبي للكلمة، أي الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح، ولا تتسم بأي شيء سوى “صالحة للنشر”؛ لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية.) تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات ( التي يقال لها “أبحاث” مع أنها لا تنبع من أي معاناة حقيقية، ولا تشكل “بحثا” عن أي شيء)، هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها السيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة؛ فتتم ترقيته، والصالح للنشر هو عادة ما يؤهل للترقية.
قد تقوم الدنيا ثم تقعد، وقد يقتل الأبرياء، وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب “البحث” لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، ثم يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، وتدور المطابع وتسيل الأحبار ويخرج المزيد من الكتب. ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تقرأ أبحاث أكاديمية فيها، لا تبحث عن شيء، ليزداد لمعانا وتألقا، إلى أن يعين رئيس المجلس الأعلى للشؤون الأكاديمية، يتحرك في عالم خال من أي هموم إنسانية حقيقية، عالم خال من نبض الحياة: رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية المورقة.”
(د. عبد الوهاب المسيري، اليهود في عقل هؤلاء، ط 2، دار العين، القاهرة، 2008، ص 81.)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى