رأي

في الذكرى الثالثة لوفاة الدكتور العربي بوسلهام امتحان الوفاء وأزمة فقدان الذاكرة

الدكتور الحسن الباز أستاذ التعليم العالي متقاعد جامعة ابن زهر أكادير

حلت يوم 21 غشت المنصرم الذكرى الثالثة لوفاة قامة كبرى في تاريخ العمل الجامعي والعلمي واستراتيجية التنسيق بين الجهود الفكرية والبيداغوجية للمكون الديني في مناهج التعليم ببلادنا، خاصة منه التعليم العالي والبحث العلمي، ذلكم هو المرحوم الدكتور العربي بوسلهام. ولا ريب أن ترسانة الشهادات الموضوعية والمقولات الوجدانية التي قيلت في المرحوم عند الإعلان عن خبر وفاته قبل سنوات، وما قيل في تأبينه وتكريمه، من قبل معارفه وتلاميذه وزملائه، بكل تلويناتهم الجامعية والبيداغوجية والسياسية والاجتماعية، تعطي صورة واضحة عن رسالية الفقيد وتضحياته والجهود التي قدمها في حياته وندب نفسه وأفنى عمره وسخر إمكاناته وبذل طاقاته في سبيل تحقيقها.
والقصد من هذا المكتوب، ليس هو إعادة لتلك الشهادات وتكرار لتلك التنويهات. ولكن القصد هو تركيز نظرات تأملية ووقفات اعتبارية لاستمداد الدروس التي نحتاج أن نذكر بها أنفسنا عندما نقرأ أو نكتب عن تراجم رجال ملتنا وأعلام أمتنا، خاصة بالنسبة لمن قضت الأقدار أن يتحملوا المهام ذاتها ويكلفوا الرسالة نفسها.
1-من طب الأبدان إلى طب القلوب:
في أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي، في الموسم الجامعي 1978-1979، على ما أتتذكر- وأنا طالب بجامعة فاس مررت على الرباط في زيارة لبعض الأصدقاء في الحي الجامعي السويسي 2. وفي ممرات الحي صادفت شابا نظراته عميقة وابتسامته معبرة، كأنه كان مثقلا بحمل محفظة أو حزمة أوراق ووثائق، ويبدو مهموما بتحقيق مشروع، لعله كان يلقى في سبيله استضعافا لقلة النصير، وتحدي المخالف، يحييني بحفاوة أنا ورفيقي الطالب محمد عز الدين توفيق، الأستاذ حاليا بكلية آداب جامعة الحسن الثاني ابن مسيك، ونجل شيخنا المرحوم البشير توفيق. كان هذا أول لقاء بالمرحوم العربي بوسلهام، وقد علمت مباشرة بعد هذا اللقاء أن هذا الشاب طالب بكلية الطب، وأنه كان يرأس منظمة طلابية باسم ” طلبة الاتجاه الإسلامي”، التي تعد إحدى التعبيرات الشبابية والجامعية عن التحدي الإلحادي والشيوعي الذي مثلته تنظيمات طلابية أخرى، كان بعضها هو المهيمن على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
ولم يكن هذا هو التحدي الوحيد الذي أدى إلى ظهور منظمة بوسلهام، ولكنه كان يواجه تحديا آخر، هو تنظيم الحركة الإسلامية السرية التي تمثلها الشبيبة الإسلامية، وما انشطر منها من فصائل وانشقاقات. حيث كان المنتمون إلى هذا التنظيم يعتبرون عادة مثل مبادرات بوسلهام وما في شكلها التفافا مخزنيا أو اختراقا مشبوها وبديلا مشوها لمشروعهم.
2-فهم السياق وتحديد النطاق:
لا يخفى على كثير من المتتبعين سياق الصحوة الإسلامية في سنوات السبعين من القرن الماضي. فلم تكن بلادنا بمنأى عن تأثير اتجاهات التجديد الديني في البلدان الأخرى، ولم تنفك هذه الاتجاهات نفسها عن ارتباطها بحركات الاستقلال السياسي والمقاومة الوطنية للتخلص من الهيمنة الاستعمارية؛ وقد كانت هناك باستمرار صلات بين هذه الفلول سواء في الرحلات الحجازية، أو الرحلات الدراسية إلى الشرق في مصر والشام، أو التواصل المباشر بين المتنورين من علماء القرويين والزيتونة وجمعية العلماء المسلمين بالجزائر، أو عبر الأنشطة الطلابية في فرنسا خاصة حركة طلبة شمال افريقيا التي شكلت أداة لبلورة الفكر الوطني بين الكفاءات المغاربية، أو من خلال المؤسسات الوطنية الأصيلة خاصة جامعتي القرويين وابن يوسف اللتين كانتا محضنا لتخرج أعلام المقاومة والحركة الوطنية.
ولكن السياق المباشر الذي يهمنا من هذا المخاض هو طفرة مرحلة السبعينات التي أسهمت فيها بعض الكفاءات الشرقية التي عملت في مؤسسات جامعية وطنية بما فيها دار الحديث الحسنية، وبعض الطلبة السوريين والأردنيين والفلسطينيين الذين قدم بعضهم للدراسة في الجامعة المغربية، أو بعد العبور من إسبانيا التي اتجه بعضهم إلى التخصصات العلمية فيها قبل ذلك.
ولا تخفى في هذا السياق جهود رابطة علماء المغرب الممثلة في فروعها ومؤتمراتها وصحيفة “الميثاق” لسان حالها، وجهود فضلاء آخرين بشكل فردي أو عبر جمعيات محلية في الرباط والبيضاء وفاس ومكناس وطنجة وتطوان والقصر الكبير وغيرها. وكان الاتجاه السلفي بدوره حاضرا في فعاليات تلاميذ الشيخ تقي الدين الهلالي، خاصة في مكناس والدار البيضاء.
ومما نمى هذا النشاط تطور ظواهر الاستلاب الفكري والتحلل العقدي والانحلال الأخلاقي، التي رافقت تنامي اختراق الأفكار الإلحادية والماركسية لطلبة الجامعة وتلاميذ المؤسسات الثانوية، أحيانا بإيحاءات من مقررات دراسية في الفلسفة والاجتماعيات، وأحيانا بفعل خلايا الاستقطاب السرية والعلنية لتنظيمات اليسار المغربي المنتعش في ظروف الحرب الباردة.
وهذه الوضعية هي التي جعلت العلماء والهيئات الدينية تدق ناقوس الخطر، وتفاعلت السلطات العليا مع هذا النبض، فأصدر الدكتور عز الدين العراقي وزير التربية الوطنية سنة 1980قرارا بتأسيس شعبة جديدة بكلية الآداب والعلوم الانسانية، تحمل اسم: شعبة الدراسات الإسلامية. وفي الوقت نفسه: يتم إيقاف التسجيل بشعبة الفلسفة.
3-تغيير المسار وتكوين الإطار:
وجد الشاب” سي العربي” في هذه الفرصة بلسما لهمومه الإصلاحية، وإرواء وجدانيا لتطلعاته الفكرية، فانخرط مع أول فوج للتسجيل بهذه الشعبة. وكان ضمن زملائه ممن يحتلون اليوم مناصب جامعية رائدة، المادة الخام لتنزيل مشروع علمي وبيداغوجي استراتيجي يعد الأستاذ محمد بلبشير مهندسه الأول. وقد ساعدته خبرته البيداغوجية والجامعية في شعبة اللغة العربية وتجربته الإدارية في مصلحة التعليم الأصيل بالوزارة، واتحاد الجامعات الإسلامية في الايسسكو، ورصيده النضالي والتنظيمي في هياكل الهيئة السياسية التي كان من نشطائها، والتحدي اليساري الطلابي المستلب، فضلا عن أصوله العائلية وشرعيتها الوطنية التاريخية. أهله كل ذلك إلى أن يمسك شراع سفينة التأسيس بتوفيق ونجاح، لأن المشروع واضح في ذهنه، والأقدار قد هيأت لإنجازه ثلة من الكفاءات العلمية والتربوية المخلصة والصادقة داخل الوطن وخارجه. فبدأ يستقطب إلى الطاقم التربوي والعلمي للشعبة أساتذة جامعيين لتغطية تخصصات الشعبة وتحقيق أهدافها وتطوير مشروعها، فكانوا من جنسيات مختلفة؛ فمنهم السوري والعراقي والفلسطيني والمغربي، ومن تخصصات متنوعة فمنهم المفسر والمحدث والأصولي والفقيه واللساني والبلاغي والناقد والمؤرخ والمنطقي والفيلسوف، من أمثال الدكاترة محسن عبد الحميد وفاروق حمادة والراجي التهامي وأحمد أبوزيد والشاهد البوشيخي وعمر الجيدي ومحمد يسف ومصطفى بن حمزة وهشام سلطان وطه عبد الرحمان ومحمد حجي وجعفر الكتاني وأحمد الطريسي وبوشتى العطار وعبد السلام مزيان والمكي المروني ومحمد الرزكي ومحمد أمين الاسماعيلي وآخرين.
4-الدراسات العليا والاعتزاز بالتكوين الوطني:
كان المشرفون على شعبة الدراسات الإسلامية مهمومين بتكوين الأطر القادرة على تغطية حاجيات الشعبة، خاصة إذا فتحت في سائر الجامعات المغربية الموجودة إذ ذاك. وكانت قبل ذلك منذ سنة 1980 قد بدأت جهود مماثلة من قبل فاعلين جامعيين في فاس ووجدة مثل الدكتور مصطفى بن حمزة الذي شجع بدوره بعض المجازين في اللغة العربية والتاريخ على متابعة دراساتهم خاصة في مصر. وفي الوقت نفسه تأكد القيام بالمهمة نفسها من قبل الأستاذ محمد بلبشير الذي عمل على تمكين ثلة من مجازي الشعب الأخرى للحصول على منح دراسية خارج المغرب. ولعل كون بعض أولئك من شعبة الفلسفة يدل على السياق الفكري والتاريخي الذي أسست فيه الشعبة، والأهداف المتوخاة منها، تزامنا مع الحد من سلطان الفلسفة المضاهية للدين في الأجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى.
وفي سنة 1982 كان نظام تكوين المكونين قد بدأ لإعداد الأساتذة المساعدين في ما يشبه تكوين أساتذة التعليم الثانوي في كلية التربية والمدارس العليا، حرصا على وطنية التكوين، وتجنبا لهدر الكفاءات، أو استلابها وهجرتها بعد إنهاء دراساتها العليا بالبلدان الأجنبية.
ولما تخرج أول فوج في الدراسات الإسلامية سنة 1984 انخرطت الشعبة بدورها في هذه التجربة. وظهرت في الأفق الحاجة إلى الاستفادة من كفاءة الحاصلين على الإجازة من كليات جامعة القرويين، وتم قبولهم بجهد من جمعية قدماء القرويين للمشاركة مع مجازي الدراسات الإسلامية في مباراة ترشح لها أزيد من 700 مجاز ومجازة، وتم انتقاء أول فوج بلغ عدد الناجحين فيه 29 ضمن تخصصين، بعد تخلي أحد الناجحين، وكان كاتب هذه السطور ضمن هذا الفوج مع ثلة من الفضلاء الذين أغنوا التأطير البيداغوجي والبحث العلمي وتكوين الأطر في هذا التخصص ببلادنا خلال العقود الأربعة الأخيرة.
لم يكن هذا العدد كافيا لتغطية الحاجات المستقبلية للشعبة من الأطر، فعمل مؤسسها من جديد على توجيه مجموعة منهم، بعد توفير المنح لهم لمتابعة الدراسات العليا في مصر. ولكن صعوبات إدارية ومالية، لعل منها ارتفاع الرسوم الجامعية، وعدم تغطيتها من قبل الدولتين رغم وجود اتفاقيات تعاون بينهما، حالت دون تحقق المقصود. فرجعت تلك الكوكبة من الشرق، وفتح أمامها التسجيل في الدراسات العليا بالسلك الثالث، وضمنها كان المرحوم العربي بوسلهام.
ومما يسجل له في هذا المسار: أنه كان وفيا لتخصصه الأول، فأنجز رسالتيه لنيل دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة في الفقه الطبي والوقاية الصحية.
5-التنسيق العام البيداغوجي والعلمي:
منذ تعيين المرحوم العربي بوسلهام أستاذا بالشعبة في كلية آداب جامعة محمد الخامس، بادر للقيام بمهمة التنسيق العام البيداغوجي والعلمي لشعب الدراسات الإسلامية، بعد تزايد عدد الجامعات التي فتحت بها إثر توفير الأطر الكافية لتغطيتها. وفي إطار هذا التنسيق كان الرجل يقوم بدور المحرك المحوري لتنظيم ندوات وأيام دراسية حول قضايا ذات أولوية في ربط الجامعة بالمحيط وأداء الدراسات الإسلامية لرسالتها الاجتماعية والوطنية والدولية بتنسيق وشراكة غالبا مع هيئات ومؤسسات أخرى داخل الوطن وخارجه.
وعلى مستوى التنسيق البيداغوجي شكلت شعب الدراسات الإسلامية بفضل جهود ” سي العربي” نموذجا نوعيا لشبكة وطنية للتشاور حول تعديل مسميات الوحدات والمواد الدراسية ومحتوياتها. ولم يكن ذلك دائما بالشكل المثالي المطلوب لأسباب منها: عدم انخراط بعض الكفاءات الجامعية، ولشخصية الأستاذ بوسلهام المرنة التي لا تود مواجهة من يفوقه علما وخبرة، أو يخالفه في اختياراته وطريقة اشتغاله.
ومما يسجل هنا أن الأستاذ حافظ على مهمة المنسق العام ، بل أسس لها هيئة في إطار قانون الحريات العامة هي الهيئة العليا للدراسات الإسلامية، كنت مع فضلاء آخرين ضمن مكتب تسييرها.
ولم يكن تشبته بهذه المهمة يثير رغبة في التغيير إلا عند قلة من الأساتذة الذين بادروا إلى تأسيس هيكل آخر للتنسيق، تعبيرا عن عدم رضاهم على طول استمرار المرحوم (بوسلهام) في هذه المهمة. ولكن المبادرة تالجديدة لم يكتب لها الاستمرار والتوفيق، وتلقى أكبر الاختبارات عندما تم تجاوزها لأول مرة في الملف الوصفي الأخير المعمول به في الدراسات الإسلامية، والذي أعد من قبل عمداء غير متخصصين، ولا يبعد أن يكونوا قد استعانوا ببعض الاستشارات ممن يهمهم الأمر.
وتشبث المرحوم بمهمة التنسيق يشبه ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبة له في آخر حجة حجها : ” فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها. وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر…” (صحيح البخاري رقم 6830، وأخرجه مسلم مختصرا، رقم 1691.)
وفي هذا الإطار أذكر أن المرحوم “سي العربي” قد وضع كل إمكاناته اللوجستيكية والعقارية والمكتبية لخدمة مشروع التنسيق، سواء على المستوى البيداغوجي، أو العلمي، أو الموازي.
فشقته وشقة والدته بحي الرياض، وشقتاهما بطنجة، ومنزله المجاور لمدرسته الخصوصية بالمدينة نفسها، وإقامته الصيفية في منتجع (واد أليان)، كل ذلك مفتوح للمشاركين في فعاليات التنسيق وتأطير الباحثين في الماستر والدكتوراه، وتنظيم الأنشطة العلمية الموازية. كما أن سيارته كانت دوما مشحونة بأجهزة الرقن والطبع والنسخ، ويرافقه المصور الخاص لتوثيق الأعمال بالصوت والصورة.
وهذه الإمكانات، بمستوى هذه الوفرة، لم يكن بإمكان الهيئة الجديدة توفيرها، ولعل ذلك من أسباب تعثرها، وعدم استمرارها.
6-دروس وضيئة من تجربة رسالية:
1-حافظ المرحوم العربي بوسلهام على علاقاته الجيدة مع كل الفاعلين في مجال نشاطه:
أ- فهو مقدر لمؤسسة العلماء؛ وكثيرا ما كان يستشهد بمواقفهم على أعلى المستويات خاصة المرحوم عبد الله كنون.
ب-وهو متعاون مع الهيئات الدينية الرسمية وأجهزتها الإدارية خاصة في تنظيم مباريات جوائز القرآن الكريم، سواء في الرباط أو طنجة، حيث مؤسسته التربوية الخاصة التي يحرص على التنشئة الصالحة لبراعمها.
ج-وهو سلس وموفق في اختيار الجهات والفاعلين الذين يشترك معهم في تنظيم الفعاليات والأنشطة.
د-ولرصيده الحركي وسوابقه في العمل الإسلامي، حافظ على علاقاته مع بعض رجالاته، مما جعله حريصا في الغالب على الوفاء للتوازنات في ما بين أطيافه المختلفة. وحتى بينها وبين الفاعلين في تدبير الشأن الديني خاصة في جانبه العلمي.
ه-رغم نبذه التعصب للانتماءات الضيقة، فقد كان ينتهز فرصا مناسبة لتواصل الفاعلين الدينيين، وإن اختلفت اختياراتهم واتجاهاتهم. ففي وليمة حفل مناقشة إحدى رسالتيه الجامعيتين، على ما أتتذكر، جمع بين كل من الأستاذ عبد الإله بن كيران والمرحوم عبد الله باها والدكتور فاروق حمادة والأستاذ محمد بلبشير، بالإضافة إلى أعضاء مناقشة رسالته، وبعض رفاقه. وأثيرت قضية تقويم ظاهرة الدعاة الجدد ممثلة في عمرو خالد، وكان الخلاف بين كل من عبد الإله بن كيران الذي اعتبر في هذا الداعية وجه التواصل السلس مع الشباب، ورأى فيه الدكتور فاروق حمادة هشاشة التكوين الديني وهزالة المعلومة الدينية.
2-تلازم وجه المرحوم بوسلهام ابتسامة معبرة صادقة، مع نظرات ذكية ثاقبة تدل على حرصه اكتشاف جوانب الاستفادة وكفاءة الاستثمار في من يتواصل معه.
3-يحرص الرجل على الانضباط بالإجراءات الإدارية والشكليات الروتينية الضرورية لتنظيم أنشطته وتنسيق مهامه. ومازلت أحتفظ في أرشيف مكتبي بكثير من دعوات الحضور الواردة عبر السلم الإداري، وجداول الأعمال، وبرامج الأنشطة، وتوصيات الندوات والملتقيات.
ولا يهون من ذلك إلا جمعه أحيانا في جدول أعماله بين أمور مؤتلفة من وجه ومفترقة من وجه آخر: فقد يكون هناك نشاط يجمع بين تنسيق رؤساء الشعب والمسالك، ومعه عمل بيداغوجي بإشراك أطر من المدرسة العليا أو مراكز مهن التكوين. ومعهما تأطير للباحثين في الماستر والدكتوراه، مضافا إلى ذلك شطر آخر متعلق بالتعليم الأصيل والعتيق، وقد يدعو إلى اللقاء من يمثل جمعية أساتذة التربية الإسلامية، أو مسؤول مصلحة اعتماد التكوينات في وزارة التعليم العالي أو كتابتها، أو عضوا من المجلس الأعلى للتعليم.
وواضح أن الذي يجمع بين هذه الأوراش كلها هو تفعيل المكون الديني في مناهج التعليم والبحث العلمي. هذا المكون الذي يحتاج اليوم إلى جهود للتداول والتأمل وإحياء الذاكرة ورسم خارطة طريق المستقبل بشكل تنسيقي يستفيد خلاله الوافدون الجدد من حكمة وخبرة وتجارب الرواد المؤسسين قبل فوات الأوان في زحمة التحديات الجديدة التي تجمع بينها خيوط استراتيجية رقيقة قد لا يعيها إلا مهمومون مثقلون بتراكمات الماضي إخفاقا ونجاحا وتطلعات المستقبل طموحا وواقعية.
وقد يشفع للمرحوم (بوسلهام) في هذا التكثيف والتزاحم الإكراهات الإدارية والمالية التي يعرفها كل من له تجربة في تنظيم نشاط علمي داخل الجامعة أو خارجها. ولكن معايير التدقيق والجودة تقتضي التعامل مع هذه الأنشطة بشكل أكثر تخصصا يختار لكل فرع منها الأصلح والأرجى إفادة ونجاعة، سواء على مستوى الفاعلين المشاركين، أو محاور جداول الأعمال.
4-كان “سي العربي” نموذجا مثاليا لطبيعة العلاقة التي يقصدها الأستاذ محمد بلبشير عندما كان يكرر باستمرار: إننا نريد أن نعيد تلك العلاقة التي كانت في تاريخنا وتراثنا التربوي بين التلميذ وشيخه.
وفعلا فقد احتضن “سي العربي” طلبته خاصة في الدراسات العليا بالماستر والدكتوراه، وفتح لهم بيوته، وشاركهم موائده.
5-دماثة خلق الرجل وحرصه على إرضاء وجبر خواطر من يعاشره ويتعامل معه، جعلته أحيانا غير منضبط في بعض مواعيده. فقد كان معنا على سبيل المثال في مجموعة البحث ب(دائرة الرباط العلمية)، ونظرا لأن بعض أعضاء المجموعة الآفاقيين يكونون في ضيافته، فكانوا يتأخرون في الالتحاق بحصة صباح اليوم الثاني من دورة المجموعة. فيجدها الدكتور فاروق حمادة المشرف على الدائرة فرصة للتذكير بأعلام قدماء ومحدثين، ومنهم محمد أبو زهرة، ممن كانوا صارمين في ضبط الوقت ومجافاة من لا يلتزم معهم بهذا الانضباط.
6-كان الرجل عفيف اللسان، حليما في التعامل حتى مع مخالفيه في الرأي والاختيار. وفي الوقت نفسه كان معتزا باختياراته وترجيحاته، مما جنبه الاستسلام لدعاوى الإحباط التي تضع العصا عادة في عجلة المشاريع والمنجزات.
7-لعل لطبيعة تخصصه الأول في الطب، وعلاقاته مع بعض الأطباء أثرا في المسارات التكاملية التي اتجهت إليها الشعبة في إطار انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي، فكان من المبادرات المبكرة تلك المحاضرات الموازية الخاصة بالأطر خارج التوقيت الاعتيادي للدراسة والعمل الوظيفي. ولعل لذلك أيضا أثرا في تأسيس هيئة تنشط في هذا السياق هي ” ملتقى العلوم والمجتمع.” وقد شارك أحد الأطباء في مناقشة إحدى رسالتيه الجامعيتين.
8-كان للدعم المعنوي والمادي من والدة المرحوم أثر كبير في تحقيق منجزاته، وقد كانت تحضر معه بعض الفعاليات، مرحبة بالمشاركين، ومعبرة عن حبورها وسعادتها، بل كان متداولا عقب إحدى الملتقيات أنها وضعت عقارا في طنجة رهن إشارة تأسيس مؤسسة للدراسات القرآنية، ولا أدري مآل المشروع، أطال الله عمرها، ومتعها بالصحة والعافية، وأجزل المثوبة والرضى لابنها، وأصلح ذريته وبارك فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى