رأي

من تساؤلات القارئ المتدبر: أنتم الفقراء إلى الله

بقلم الشيخ سفيان ابوزيد

قاعدة أصيلة مطلقة لا استثناء فيها ولا اعتبار..
جاءت هذه القاعدة مسبوقة بنداء لكافة الناس (يا أيها الناس) للدلالة على تلك الأصالة والإطلاق، فكل الناس بغض النظر عن فصولهم فقراء إلى الله سبحانه، وذلك الفقر مطلق لا يزيد ولا ينقص..

وفي الخطاب قصد للمخاطب وتحديد له وتسديد، وفي ذلك عناية وتعيين، (الفقراء) معلوم ما في تعريف الجزئين من حصر وقصر، فأنتم الفقراء وليس غيركم، والمقصود من هذا القصر هو ترسيخ هذا المفهوم وتأصيل هذه القاعدة، فكل المخلوقات فقيرة إلى الله، ولكن الإنسان لما آتاه الله من إرادة وقدرة على الاكتساب قد يتوهم استغناء (كلا إن الانسان ليطغى أرآه استغنى) والفقر إلى الله ينبغي أن يكون مبدأ من مبادئه ومنطلقا من منطلقاته، وخاطبهم بالجمع حتى لا يستثنى أحد، فكلكم فقير إلى الله عزوجل..

وهنا تجتمع كل معاني الفقر من حاجة وعوز وفاقة وذل وهم وانكسار ظهر، واتضاع كل هذا غايته الله عزوجل (إلى الله) وهذا يدل على دوام ذلك الفقر واستمراره، وهذا الفقر مطلق، فمنه ما هو جبلي فطري، حاضر وإن غفل عنه الانسان أو تجاهله أو لم يعترف به، ومنه ما هو مكتسب في الكشف عنه وفهمه وإدراكه.

وجاء التعبير بلفظ الجلالة (الله) ولم يقل (الرب) لأن الفقر هنا فقر متكسب يجب على الإنسان أن يفهمه ويستصحبه في كل حركاته وسكناته، بل ينبغي أن يكون هذا الفقر عقيدة راسخة رسوخ الألوهية.

وهذه الآية جاءت في سياق التذكير ببعض احتياجات العبد إلى ربه، ومن خلال هذا السياق يمكن أن نذكر أنواعا من الفقر:

فقر الإنسان إلى الله فيما يتعلق بالمستقبل والمآل والمعاد:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ 5 إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ 6 ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٌ 7 ﴾ [فاطر: 5-8]

فالله عزوجل يقرر بأن وعده حق، ذلك الوعد المستقبلي الحتمي والذي لا مفر للإنسان منه، وليس له بد منه، ولا يمكنه التعرف عليه إلا من خلال وحي الله سبحانه، إذن فهو فقير إلى تلك المعرفة وإلى ذلك اللجوء (ففروا إلى الله)، وإلى ملجئ يؤمنه من غوائل المجهول، ويعلمه كيف يتعامل مع ذلك المجهول..

الفقر إلى الله فيما يتعلق بالرأي والترجيح والاختياروالمعرفة:

﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ 8﴾ [فاطر: 8-9]

فالتزيين هنا شيطاني كما دلت عليه الآية السابقة (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فبذلك التزيين يرى الإنسان السوء حسنا، فتنقلب لديه المفاهيم والأحكام، فيرى الشر خيرا والخير شرا والصالح طالحا والطالح صالحا، فيحدث لديه خلط فكري وفوضى سلوكية تعود عليه بالضرر في الدنيا والآخرة، لذلك فهو فقير إلى الله من خلال منهجه وتوجيهه وإرشاده، بل الأمر أبلغ من ذلك، فالسالك لمنهج الله، والمنطلق من ذلك المنهج هو الآخر فقير إلى الله خلال مسيره، بتسديده وتوفيقه وعفوه، لذلك جاءت الغاية (إلى الله) وليس لفاصل بينهما كمنهج الله أو طريق الله أو سنن الله، لأن الفقر هنا فقر عميق دائم مطلق.

فقر إلى الله فيما يتعلق بالحياة:

﴿وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ 9 ﴾ [فاطر: 9-10]

كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم وتطور وتحديث وقوة وغناء يمكن أن ينهار في لحظة واحدة، ليس بتدمير أو نسف أو خسف أو ذهاب، وإنما بلجم موارد الماء وخزائنه من أن تزود به الانسان، وكذلك بقطع غيث السماء، فهل يستطيع الانسان أن يستغني عن الماء والله عزوجل يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فالذي أرسل الرياح قادر على حبسها، وبالتالي لن يثار السحاب، ولن يساق، ولم يغاث ولن تحيى الأرضومن هنا يوقن الإنسان أنه فقير إلى الله في أصل حياته وديمومتها واستمرارها.

الفقر إلى الله فيما يتعلق بالجانب النفسي والذاتي:

﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ 10﴾ [فاطر: 10-11]

جلب الإنسان على الاعتزاز بنفسه، وذم الذل والمهانة ويحب اللعو والترفع والترقي، وهو منذ أن يعقل وحسب الوسائل المتوفرة لديه والإمكانات الحاضرة أن يحافظ على كيانه وأن يبتعد عن كل ما يذله، وهو في نفس الوقت فقير إلى غيره، لذلك هو بين أمرين : أن يكون يعترف بفقره إلى مخلوق أو أن يتعرف بفقره إلى خالق، ففي الأولى لن يزداد إلا ذلا، لأنه تعلق بما هو أدنى منه، ولذلك لشرفه على كل باقي المخلوقات، فذلك المخلوق محدود الصلاحية والطاقة لن يستطيع أن يفي بعقد الفقر، وبالتالي لن يزداد إلى حاجة وفقرا وذلا وهوانا، وفي الثانية فقد التجأ إلى الغني المغني الحكيم المدبرالقيوم وبالتالي لن يزداد إلا عزة وكرامة وحرية من كل تلك القيود المخلوقية العزة (فلله العزة جميعا) كل ما يتعلق بالعزة من أسباب وأحوال وهيئات ومصالح هي منطلقة من العزة بالله.

الفقر إلى الله فيما يتعلق بالخلق:

﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ 11 ﴾ [فاطر: 11]

يذكرنا القرآن في هذه الآية بنعمة الخلق ويذكرنا بأننا مسبوقون بعدمية ، والذي أسدل ستارها، ورفع لواء الوجود هو الله عزوجل، وفي ذلك تذكير بأصل الضعف (هو الذي خلقكم من ضعف) فيه ما فيه من تنبيه إلى التنازل والضعة والتواضع ، التي هي لون من ألوان الفقر ومعنى من معانيه، ويذكرنا بسنة الزوجية في الخلق، التي هي بريد للاستمرار السوي والقوي والفطري، وفي هذه الإشارات تذكير بالفقر إلى الله تعالى في كل ذلك، فنحن فقراء إليه في أصل الخلق وفي نظام استمراره فلا يعرف حق الزوجية وقانونها وعوامل استمرارها إلا خالقها، وهو الذي حدد الآجال وأجراها.

الفقر إلى قيومية الله تعالى:

﴿وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ 12 يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ 13 إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ 14﴾ [فاطر: 12-15]

فنظام البحارفي توازن مخلوقاتها وتسخير خيراتها وتسخيرها باعتبارها الوسيلة الأولى والقديمة والدائمة في التنقل ونقل الخيرات والبضائع، وصلاحية المياه للشرب والاستساغة والاستعمال، ثم نظام الزمان بين الليل والنهار الناتج عن حركة كونية لا يمكن للعقل استيعابها ولا تصورها ولا تقديرها ولا الاحاطة بها، وغير ذلك من مظاهر القيومية التي لو وكل عشر معشار معشارها إلى الإنسان لهلك وأهلك، وها هو ذا قد أوتي شيئا من الإرادة عاث في الارض فسادا لما انقطع حبل ذلك الفقر، وظهر طاغوت الاستغناء..

فمن خلال ما مضى وتدبر نعلم يقينا مدى فقرنا إلى الله عزوجل فمن أصدق الكلمات والخطابات التي ينبغي أن يستقبلها الانسان ويفعلها ويتخذها أهلا وقاعدة في كل مجالات حياته (أنتم الفقراء إلى الله)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى