
قيمة العدل من القيم التكريمية الثابتة بالاستقراء التام لآيات الكتاب الله العزيز، وصحيح السنن، وإجماع أهل العلم، وذلك بحكم أن ” العدل أساس عمارة الأرض، والظلم مؤذن بخراب العمران.” ابن خلدون. المقدمة. تحقيق. علي عبد الواحد وافي. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع. د، ط. 2004م. 2/ 697 إلى 703.
ولذلك؛ ” فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرّم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.﴾ [المائدة:8]، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به. فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه… والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته، والثناء على أهله ومحبتهم. والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه، وذم أهله وبغضهم… ولهذا وجب على كل من حكم بين اثنين أن يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 58) فليس لحاكم أن يحكم بظلم أبدا.” ابن تيمية. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية. 5 / 126-128. مجموع الفتاوى. 30 / 339.
وعليه؛ فكيفما كانت الخلافات، ومهما عظمت المظالم بين أي طائفتين من المؤمنين؛ وإن بلغت حد الاقتتال؛ فلا بد من فظ النزاع بينهما بالعدل، وإن اقتضى الحال مقاتلة الفئة الباغية حتى ترجع إلى الحق وتقبل بالصلح؛ كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا؛ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ؛ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ؛ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.﴾ (الحجرات: 9، 10).
وهو ما يقطع بأن العدل واجب على الجميع تجاه الجميع، وأكثر من ذلك؛ فواجب العدل يقتضي أن يعترف الظالم بظلمه، ويشهد بذلك على نفسه، أو على أقرب المقربين إليه؛ دونما اعتبار لغنى غني أو فقر فقير. ودونما اتباع لهوى النفس على حساب العدل؛ كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا. فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا.﴾ (النساء: 135).
فهذا هو الأصل الشرعي المقرر في التعامل مع المخالفين؛ أيا كانوا مسلمين، أو كافرين لأن “الله يحب الكلام بعلم وعدل وإعطاء كل ذي حق حقه.”مجموع الفتاوى. 12 / 205
وعليه؛ فهل المتكلمون اليوم عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي يتكلمون في قضايا الوقت وواجباته، بعلم وعدل وأدب؟ وهل يعالجون قضية الخلاف المذهبي أو الحركي أو السياسي ويدبرونها خلافاتهم مع مخالفيهم في الانتماء بعلم وعدل وأدب؟
إن معظم ما ينشره كل هؤلاء المتكلمين من جميع الفرق والأحزاب والجماعات؛ لا يمت إلى قواعد العلم والعدل والأدب بصلة للأسف الشديد. في الغالب الأعم.
وهذه من الآفات المنهجية العلمية المعضلة التي ما ينبغي أن تبقى سارية المفعول بين المسلمين عموما. وعلمائهم ومثقفيهم ودعاتهم ووعاظهم خصوصا؛ بل يجب عليهم جميعا أن يتخلصوا منها، ويتنزهوا عنها؛ عملا بأخلاق رسول الله ﷺ في التعامل مع مخالفيه من جميع التوجهات؛ موافقة كانت أو مخالفة له؛ بعلم وعدل وأدب.﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.﴾ (الأنعام: 52)
ولهذا؛ ما أحوجنا لقيمة العدل؛ نتربى عليها، ونشيعها فيما بيننا، ونتمثلها في حياتنا الخاصة وعلاقاتنا العامة، بحيث تصبح منهجا عمليا تلقائيا في تعاملنا مع أيا كان؛ بغض النظر عن انتمائه العقدي، المذهبي، الإيديلوجي. أو موقعه الاجتماعي الاقتصادي. أو قرابته الأسرية العائلية. أو حالته النفسية المزاجية. كما سلف تأصيله. وذلك لسبب بسيط؛ وهو أن الله ما حرم على نفسه شيئا مثل ما حرم الظلم. فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:” يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا…” صحيح مسلم. باب تحريم الظلم. 4 / 1994. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: “الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.” صحيح البخاري، بَابٌ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. 3 / 129. وفي هذا القدر كفاية بيان لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. وإنما الأعمال بالمقاصد. والسلام.