رأي

تأملات في سورة الكهف

بقلم أحمد الشقيري الدين

سورة الكهف من سور القرآن العظيمة يستحب للمسلم قراءتها في أعظم أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة،فقد روى الحاكم في المستدرك مرفوعا (إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). وصححه الألباني.
وفي صحيح مسلم مرفوعا: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال).
وفي ثنايا هذه السورة المباركة الحديث عن أربع قصص سوى قصة آدم مع إبليس التي تكررت في سور أخرى غيرها..
وهذه القصص الأربع هي قصة أصحاب الكهف القصة الرئيسية التي بها سميت السورة، وقصة الغني صاحب الجنتين مع أخيه الفقير، ثم قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وأخيرا قصة الملك العادل ذي القرنين..
وقصص القرآن للتدبر والتأمل واستخراج العبر كما قال تعالى في آخر سورة يوسف (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)..
وقد طرحت على نفسي سؤالا بخصوص سورة الكهف وأنا أتأملها: ما العلاقة التي تربط القصص الأربع المذكورة فيها أو ماهو المشترك بين تلك القصص؟
ولا أزعم أن ما وقفت عليه من معاني هو كل ما يمكن استخراجه من عبر ومواعظ من قصص السورة المباركة، فالقرآن كلام الله الذي أمرنا بتدبره، وكنوزه لا تفنى ولا يحيط بها جيل واحد مهما أوتي من علم..
السورة تفتتح بخبر أصحاب الكهف، وهم فتية عاشوا في مجتمع انتشرت فيه مظاهر الشرك والمعاصي، لم يجدوا على الخير أعوانا، فلما خافوا على دينهم وتوحيدهم وأخلاقهم من أن تتلوث بذلك المناخ الفاسد فاصلوا مجتمعهم فرارا بدينهم من الفتنة، كما حكى عنهم القرآن الكريم: (وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ، ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا )
وقد ذكر المفسرون أنهم كانوا أبناء أشراف عظماء في زمن ملك ظالم، فتركوا الشرف والترف فرارا بدينهم..
إذن السورة بدأت بحال فتية فروا بدينهم من الفتن في زمن الاستضعاف فيكون هذا مسلك محمود إذا كان ميزان القوة يميل لجهة الظلم والطغيان ولصالح أهل الباطل،وفي الحديث الصحيح (يوشِكُ أن يَكونَ خيرُ مالِ المسلِمِ غنمًا يتبعُ بِها شَعَفَ الجبالِ ومواقعَ القطرِ يفرُّ بدينِهِ منَ الفتنِ)..
بينما تختم سورة الكهف بقصة ملك عادل أوتي كل أسباب القوة، وهو ذو القرنين، فكان سلوكه مناسب لصالح ميزان القوة الذي أوتيه، أي إقامة العدل بشرع الله، كما قال تعالى حاكيا عن ذي القرنين: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا، ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا، قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)
وبين القصتين خبران:الأول يذكر حال صديقين أو قريبين أحدهما صاحب الجنتين الذي أطغاه ماله حتى أخرجه إلى الكفر والثاني مؤمن فقير، فكان المناسب لحال هذا الأخير تجاه صاحبه أن ينصحه بالحوار والموعظة الحسنة: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا ، فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)
فهذه حال ثالثة في التعامل مع الباطل إذا استعلى بالمال والجاه وكان بالإمكان الاشتباك معه بالحوار والكلمة..
وهناك حال رابعة تتمثل في جريان الأقدار بما ظاهره الشر، فالواجب إزاءها التسليم والرضى لأنها أقدار ظاهرها شر وباطنها خير، وهذا تجليه لنا قصة موسى مع الخضر عليهما السلام..
فالحاصل أن المؤمن في سيره إلى الله تعتريه أحوال حيال ما يراه باطلا وظلما: الحال الأولى أن يكون مستضعفا يخاف على دينه من الفتن، فيشرع له الفرار بدينه وهجر مجتمعه،والحال الثانية أن يكون في موقع قوة فيجب عليه الإصلاح وإقامة شرع الله في نفسه ومجتمعه، والحال الثالثة أن يكون إزاء ظلم وباطل يستطيع الاشتباك معه دون أن يفقد هويته الدينية، فهنا يلزمه سلوك الحوار والنصح بالتي هي أحسن ،ثم الحال الرابعة أن تكون الأقدار تجري بما يراه شرا دون أن يفهم منشأها ولا يدرك مغزاها، فعندها هو مطالب بالتسليم والرضا بالقدر حتى تنكشف له الحكمة أو لا تنكشف..
والله تعالى أعلم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى