رأي

الإصلاح: مقصده و سبيله

محمد كندولة

الاستعمال الكثير لبعض المصطلحات في التداول الثقافي و السياسي قد يخرجها عن معناها ، وقد يخفي بعض تجلياتها ومظاهرها ، فتضيع بذلك الأسرار و المقاصد و الفوائد ، مثل ذلك كلمة “الإصلاح ” التي شاع استعمالها حتى غاب عن الإصلاحيين أنفسهم الحقول الدلالية لها، فتأثر السلوك الحركي ، و التعاطي الثقافي و السياسي ، لدرجة أصبحت دلالة على الكسل و الانطواء و الانعزال والانسحاب ، فأصبح الإصلاح حكمة يمتاح معانيه من قولنا السكوت حكمة .
فإزاء هذا الصمت الرهيب و السكوت العجيب ، مات النقاش ، وعفا الحوار وجمدت المقولات ، فاعتلى صهوة المنابر ، كبار الصامتين وعتاة الساكتين ، في حين إن العطب حاصل ، و العطل واقع، وحاجة الناس لمن يجدد إفهامهم أضحت ملحة.
أيها الإصلاحيون ، دعاة و قادة ، أعيدوا فهم دلالة الكلمة ، أعيدوا حيوية النقاش و الحوار ، فما تقدم قوم إلا بهذا ، وما أصلحوا أحوالهم إلا بالنقد و الإصلاح .
ولنبدأ بمفهوم الإصلاح ، فنقول ، الإصلاح أولا ،مقصد من مقاصد البعثة ، قال تعالى : “قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (88) هود
وثانيا ،هو مقصد لاستجابة الناس للرسل و الأنبياء، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
والإصلاح ضد الإفساد ، و المصلح غير المفسد ، فالمصلح يأتي بالصلاح ، ويسعى لتملك أسبابه ، يعمل على إرجاع المعوج إلى استقامته و اعتداله ،يجتث أصول الفساد المانعة من تحصيل المصالح و المنافع ، وقد يسعى إلى إحياء المفقود من المصالح التي عطلت وأميتت، فكما إن الإصلاح إحياء ، فهو كذلك تزكية للناس و الأشياء، وتكون بتطهيرها من أسباب الفساد مع تنميتها وتطويرها بعد ذلك، وحفظها من كل ضرر قد يتسرب إليها من خارجها ، مع إدامة الصلاح فيها.
مجالات الإصلاح :
أول محل للإصلاح هو الأنفس أو القلوب أو الوجدان ، يقول تعالى :” وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍۢ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ”
وإصلاح البال، هو إصلاح القلوب و الدين و العقل ، ومعناه كذلك إصلاح الحال ،أي يجعلهم الله ذوي بال.
ويدخل في إصلاح الأنفس ، العمل على إصلاح نفوس الغير ، وهو تكليف من الله للعباد ، ومثله إصلاح الزوج و الزوجة ، والذرية و اليتامى من الأطفال “قل إصلاح لهم فيه خير”
ثانيا : إصلاح الأعمال ، وهو ثمرة إصلاح الأنفس ، ويدخل فيه عمل المؤمن بالصالحات ، وابتعاده من كل ما يفسدها، بإزالة أسبابها ومحو أثارها.
ثالثا: إصلاح الأحوال ، أي أحوال الاجتماع البشري العام و الخاص ، برفع الظلم ، وبالأمر بالعدل في المعاملات ، يقول القرطبي :” أن تصلحوا دنياكم بالعدل و آخرتكم بالعبادة”
ويعد إصلاح ذات البين ودرء الفساد عن العلاقات الاجتماعية و السياسية من أهم تجليات إصلاح الأحوال، يقول صلى الله عليه وسلم ” ألا أخبركم بأفضل من الصلاة و الصوم والصدقة.. إصلاح ذات البين ”
رابعا : إصلاح الأموال ، ويكون الإصلاح فيها بالتقعيد لحفظها و التقعيد لتنميتها ، وللأسف أن هذا المجال من المجالات المنسية من الذكر و الاهتمام و التفكيرّ.
اما فوائد الإصلاح فكثيرة ، منها حفظ الدين من أقوال العابثين والمغرضين ، حفظه كذلك من الأهواء و المطامح الدنيوية ،ومن التولي عنه والخروج منه ، فإذا حفظ الدين حفظت معه المصالح الأخرى كالعقل والنسل والنفس و العرض و المال .
ومن ثمار الإصلاح كذلك انتشار العدل و التواصل و الأمن و الحرية و الكرامة و الوحدة وغيرها.
أيها المصلحون أعيدوا النظر في رؤيتكم في خططكم في برامجكم في وسائلكم ،فالمتربصون بالدين و الأوطان لا يغمض لهم جفن و لا يهدأ لهم بال حتى يحققوا مراداتهم و أطماعهم . فما ضاعت مصلحة وراءها مجتهد ومجاهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى