رأي

المرأة الفلسطينية: وامعتصماه لكن لا معتصم لها

سلسلة: غزاويات من وحي طوفان الأقصى

بقلم : ذ. نورالدين الهادي

الجمعة 29 نونبر2024

 

مضى الزمان والقرون وهزلت الأمة وأصابها الوهن، ومع بداية القرن العشرين جاء الانجليز واحتلوا أرض فلسطين ثم سلموها لقطعان عصابات بني صهيون بوعد لئيم من بلفور، فكانت مجزرة دير ياسين التي تزعمها السفاح ميناحيم بيكين سنة 1948، واستوطن الكيان الغريب في فلسطين بالحديد والنار، وتوالت المسالخ والمجازر منذ ذلك التاريخ، مقتلة بعد مقتلة ومذبحة بعد مذبحة عبر 75 سنة من الاحتلال الإسرائيلي للأرض المقدسة، كل مجزرة تنسي التي قبلها، وخلال كل هذه المراحل تكابد المرأة الفلسطينية في صمت ومعاناة ما يحل بها وبزوجها وأبنائها وأهلها، من أسر وتنكيل وقتل دون محاكمة عادلة، الجندي الصهيوني يقتل على الهواء والهوية، ويمارس هوايته السادية في قتل الأرواح لمجرد أن يرى فلسطينيا صاحب الأرض ولو لم يحمل سلاحا، في تحدي سافر لكل الأعراف الدولية.

كان هجوم طوفان الأقصى التاريخي الذي حطم كل الأساطير الاسرائيلية: الدولة المنيعة التي ترهب الجميع، الجيش الذي لا يقهر، الكامرات التي تحرس الحدود…كل ذلك لم ينفع مع المقاومة، كان هجوما استباقيا لهجوم آخر كان يخطط له العدو الصهيوني لتطهير غزة من الفلسطينيين وتهجيرهم إلى سيناء من أجل المزيد من التمدد، أطلق زعيم الصهاينة نتن ياهو حربا ماحقة حارقة لكل أشكال الحياة بغزة، وبدأت سرعة عداد الموتى والجرحى في تزايد رهيب، أُرعبت الأم الفلسطينية مما يحدث حولها، تذكرت أنه قبل قرون أهينت امرأة عربية فنادت حاكما عربيا مسلما لنجدتها فجاءتها النجدة سريعة لم تتأخر، تذكرت قصة تؤرخ لحدث عظيم عرفه تاريخ العرب والمسلمين، لما سُحلت إلى سجن عمورية بالأناضول امرأة هاشمية مهيبة جليلة تسمى شراة العلوية، فصاحت: وامعتصماه. ترددت صيحتها مزمجرة حتى وصل صداها إلى الخليفة العباسي المعتصم، المعروف بالإباء والعزة والقوة، استنفرته الصيحة المدوية للمرأة المسلمة المظلومة، فلم يقر له جفن وركب حصانه الأبلق وسار في جيش من تسعين ألف مقاتل من نخبة المسلمين، زحف الجيش الجرار للنجدة وإغاثة المرأة المكلومة دفاعا عن شرفها، فالخليفة لا يرضى لنفسه أمام ضميره وشعبه والعالم أن يُطلب منه الغوث ولا يجيب فتلك ليست من صفة الزعماء والخلفاء، فكانت معركة كبيرة حوصرت فيها عمورية المستعصية المنيعة عن الخصوم وضربت بالمنجنيق ودكت أسوارها وحصونها خلال شهر رمضان من سنة 223 للهجرة، فسُحق الروم وانتصر المسلمون وأخرجت المرأة العربية شراة من السجن معززة مكرمة مفتخرة بالخليفة المعتصم الذي جاء لنجدتها بجيش جرار، وكان من نتائج تلك المعركة الكبرى انهزام الروم حيث لم تقم لهم قائمة بعدها إذ فتح المعتصم كل بلادهم وضمها إلى المسلمين، لم تكن صيحتها في واد ولا نفخة في رماد، بل حين النداء كانت موقنة بالإجابة السريعة المستعجلة، فكانت معركة خلدها الشاعر أبو تمام الطائي في قصيدة أدبية تاريخية بدأها بالبيت المشهور:

السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ في حَدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ

ثم استرسل يقول:

يا يومَ وقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفتْ عنْك المُنى حُفَّلًا مَعسولةَ الحَلَبِ أَبْقَيتَ جَدَّ بني الإسلام في صعدٍ والمشركين ودارَ الشِّركِ في صَبَبِ أُمٌّ لهم لَو رَجَوْا أن تُفْتَدى جعَلوا فِداءَها كلَّ أُمٍّ بَرَّةٍ و أَبِ

تذكرت الفلسطينية المظلومة المكلومة في أهلها هذا الحدث التاريخي فنادت بصوت مبحوح بالبكاء على الأقرباء والأبناء لكنه مجلجل كالرعد في السماء: وامعتصماه، تظن أن أكثر من عشرين معتصما يحكمون بلاد بني يَعرُب سيجيبون صرختها التي تعتصر الألم، المرأة العربية كانت واحدة وأجابها المعتصم، أما نساء غزة المستغيثات فهن بالآلاف، آلاف الصرخات كل ساعة وكل يوم وكل شهر على امتداد حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش بني صهيون المارق على شعب أعزل إلا من يقينه بعدالة قضيته، وبلاد العُرب فيها أكثر من عشرين معتصما بكما صما لا يتحركون..

لم تكن صرخة واحدة ولكن صرخات وصرخات لأمهات فلسطينيات تصدح أصواتهن بالاستغاثة أياما وأسابيع وشهورا وبدأت تحسب القتل بالسنوات بعد انقضاء سنة على العدوان، لكن لا مغيث ولا مجيب، فقد ماتت الضمائر، استرسلت في صرختها: يا عرب يا مسلمين يا معتصم دولة …ويا معتصم دولة.. ويا .. ويا .. ألم يسمع صرختي أحد منكم، أليس فيكم زعيم رشيد؟ أين النخوة العربية والإسلامية ؟أين الدفاع العربي المشترك، أين الدين والتاريخ والجغرافيا واللغة..هل تحول العدو إلى صديق بل حليف تمضى معه معاهدات التطبيع، أينكم يا زعماء، سالت دماء الشيوخ والنساء والأطفال بغزارة وِديانا دافقة، الآلاف من الشهداء والجرحى دون علاج، قتل الغزاة الصهاينة الأطفال الأبرياء الخدج في مراقدهم بعدما أسِروا الطواقم الطبية، فصار هؤلاء الصبية فريسة للكلاب الضالة، منعنا من الماء لري العطش ومن الأكل لسد الرمق حتى ولو كان خبزا حافيا، منعنا من الدواء لتضميد الجرحى أو لعلاج المرضى، منع عنا كل ما يبقى على الحياة، قصفنا بكل أنواع القنابل وبمختلف الأوزان، جعلت أمريكا عدوة الشعوب ودول الغرب المنافق وشركات الأسلحة من غزة حقل تجارب لقوتها التدميرية التي تسحق البشر والحجر وتحوله إلى ركام ، بكيت أبنائي الذين قصفوا بسلاح مدمر مزقهم أشلاء، ماعدنا ندفن شهداءنا جثتا بل كتلة عظام ولحم تجمع في أكياس، يمارس الجيش النازي كل صنوف القتل والدمار وحرب الإبادة الجماعية أمام أنظار العالم الذي يتفرج على مشاهد التقتيل اليومي دون حراك، فأين شعبنا من مجلس الأمن الدولي وحقوق الإنسان وأين أطفالنا من حقوق العيش الكريم، أوجه صيحاتي إلى كل معتصم في كل بلد عربي، أين جيوشكم التي تعد بالملايين، أين طائراتكم ودباباتكم وأسلحتكم وذخيرتكم التي صرفتم عليها مليارات الدولارات من أموال شعوبكم، إن لم تسخر لتحرير فلسطين فمآلها حروب عبثية بينكم أو الصدأ والخردة، أين دول الجوار التي ترى المذابح رأي العين وراء السياج الحدودي على مرمى حجر في رفح، صبري لا يتحمل الصبر من فرط ما حل بي وبشعبي الفلسطيني، لكن سأبقى صامدة صابرة مصابرة معتصمة بالله الذي ينصر المظلومين عاجلا أو آجلا، مكفكفة دموعي واقفة كالجبال الرواسي موقنة بالنصر المبين، سأقدم أبنائي الأول والثاني والرابع والسابع والعاشرشهداء فداء للأقصى وماحوله، أنا الخنساء وكل الفلسطينيات خنساوات تقدمن كل أبنائهن فداء للوطن، ليكونوا أبطالا مقاومين للإحتلال بلا كلل في معارك بطولية يسجلها التاريخ بمداد من الفخر والاعتزاز، لشعب كتب عليه أن يقاوم بني صهيون، أما الكيان الغاصب فزواله قريب جدا لا محالة، سأظل أصيح مستغيثة: وامعتصماه، يقيني أنه سيخرج من رحم أمتي معتصم يزيح هذا الانحطاط والخذلان، سيتحرر الأقصى وفلسطين ولا عزاء للمطبعين المُشرذَمين العاجزين المتخاذلين المستسلمين فهم لا يستحقون المناداة عليهم بالمعتصم (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اُ۬لصُّبْحُۖ أَلَيْسَ اَ۬لصُّبْحُ بِقَرِيبٖۖ (80)هود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى