
إسهامًا منا في تجاوزِ بعضِ ألوانِ سوء فهم التي ترفُدُ سؤالا ملتبِسًا مثل التساؤل الرائج في نقاشتنا المغربية اليوم: هل مغربُ “إمارة المومنين” دولة “عَلمانية”؟؟؟؛ ووعيا منا بالالتباس الذي يُحِيط بكل أبعاد هذا التساؤل الظاهرةِ والضامِرةِ؛ نرى لزاما تقديمَ بعض الإيضاحات حول ثابت “إمارة المومنين” في الثوابت الدينية المغربية؛ وإضاءةَ الأفق الاستثنائي الذي تفتحهُ هذه المؤسسة لتجاوز آفاتِ الدولة اللائكية والدولية الدينية على السواء.
حين نتحدث عن الثوابت الدينية في المغرب فإننا لا نتحدث عن عناصر واختيارات تناهض التطور والتغير، بل عن مقومات هي التي تتيح لهذا التطور أن يكون في خدمة المجتمع وتماسكه وانسجامه ووحدته. فالثابت، حسب المفكر المسلم الشيخ عبد الواحد يحيى (رونيه غينو): “ليس هو ما يناهض التغيير، بل ما يعلو على التغيير”، ومن ثم فالثوابت لا تعني رفض التعدد أو الاختلاف كما قد يتوهم البعض، بل هي التي تمثل المشْتَرَك الذي يتيح للتعدد أن يكون غنى لا تمزيقا، وللاختلاف أن يكون رحمة لا فرقة وتشتيتا، إذ لا بد من مشْتَرك متَّفَقٍ عليه يشكل الأرضية التي تجعل من التعدد الذي يقطنها غنى وثراء، ومن الاختلاف الذي توجهه رحمةً واختلافا منتِجا وإيجابيا. وكثيرة هي السياقات التاريخية التي عرفت ذنيك التعدد والاختلاف محرومًا من الأرضية المشترَكة ومن الحواضن الثابتة، فكان أن صار التعدد فيها مصدرَ فتنة، والاختلافُ فيها سبب تنابذ باسم الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح. فيما يتيح التمييز بين المشترك الثابت ومدارات الاختلافِ المشروع، إدراكَ سر انتشارِ الإسلام وامتداده في الزمان والمكان؛ إذ هو واحدٌ في متعالياته العقدية والتعبدية والأخلاقية والتشريعية، متعددٌ في تنزيلاته التي ما فتئت تراعي مقتضيات أحوال الزمان والمكان والإنسان في السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية والحضارية المختلفة. وهذا من عظمة الإسلام الحنيف التي أتاحت له أن يكون رسالة عالمية تتبناها شعوب وقبائل ومجتمعات وثقافات مختلفة الأعراف والأعراق واللغات والذاكرات والأحوال التاريخية، لكنها وجدت في رحموتية آفاق تنزيله ورحابتها ما يتيح لها أن تنتمي إلى الإسلام الكوني من داخل ثقافاتها المخصوصة. وهذا واحد من مقومات خلود هذا الدين إلى يوم الدين، وامتداده في الأزمنة والأمكنة المختلفة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويشكل ثابتُ إمارة المومنين، على هذا المستوى، الإطار الناظم الذي يحافظ على ذلك المشتَرَك التديني بين أهل المغرب، بما هو شرطُ كلِّ وحدة، وصمّام أمان من كل فُرقة مذهبية أو تمزّق للأمة، أو تطييفٍ لها باسم الحقيقة الدينية الواحدة والكتاب الإلهي الواحد والنبي الخاتِم الواحِد. وهنا، لا بد من الـتأكيد أن مؤسسة إمارة المومنين هي تعاقدٌ بين المأمومين والإمام، أي بين الأمةِ المبايِعَة والإمامِ المبايَع، له حقوق وعليه واجبات كما هو شأن نفسه بالنسبة للأمة، مما يعني نأيَ هذه المؤسسة من كلِّ فهم تيوقراطي يقارنها بحكام القرون الوسطى مما كانوا يحكمون في السياق المسيحي باسم الحق الإلهي. فنحن هنا أمام عقد بيعة له مقومات التعاقد الاجتماعي، المبني على الشورى والاختيار والشرعيتين الروحية والاجتماعية، وليس مبنيا على التسلط والقهر بانتحال حق إلهي كان الإكليروس يذودون عنه ضمن تحالف الاستبداد والسلطة الكنسية في أوروبا العصر الوسيط. وهذا ما يجعل من النموذج المغربي لإمارة المومنين نموذجًا متفردا يقوم على التعاقد الاجتماعي الذي يمثله عقد البيعة، وانطلاقا من شرعية دينية وحضارية وتاريخية تضمن للأمة وحدتها المذهبية، وشخصيتها الحضارية، واستقلاليتها التاريخية. وهو نموذج أيضا قابل للاستلهام المعاصر للخروج من حَدِّيَّة وإميَّةِ الدولة الدينية أو الدولة اللائكية. إن إمارة المومنين تنقذنا من هذه الإمية؛ بحيث يشكل فيها الدينُ مصدرا أخلاقيا وروحيا وحضاريا لتفعيل الحركة التاريخية للأمة، بعيدا عن التطرف في إقصاء الدين من المجال العام كما هو حال الدولة اللائكية، وبعيدا عن تطرف الحُكم باسم الحق الإلهي وإضفاء القداسة المتعالية على نظام اجتهادي قائم على التعاقد الاجتماعي، فذلك تطرف آخر يشكل مطب الدولة الدينية من جهة ثانية. وبهذا تقوم مؤسسة إمارة المومنين بتثمير حضور الدين في المجتمع والسياسة دون أن يكون لا ملغًى ومقصيا، ولا حاضرا بشكل يعلل التسلط والاستبداد كما حصل في أوروبا الوسيطية.
وطلبا لبيان هذا الأمر، ننطلق من النظر دستور 2011، ومن بعض خطابات هذه المؤسسة الدالة في هذا السياق.
جاء في الفصـل 41 من دستور 2011:
” الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير. يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر”.
وفي الفصل 46 :
“شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام”.
بتأمل هذين الفصلين، نجدنا إزاء عمق كبير في الجمع بين المسؤولية والشرعية الدينيتين للإمامة العظمى، وبين المسؤولية والشرعية الاجتماعيتين للملك المواطِن. وفي هذا تحقيق لفرادة في الشرعية الجامعة بين السماء والأرض، بين الدين والمجتمع؛ شرعيةٍ لا تُقصي الدين ولا تُلغيه من الاعتبار كما هو شأن الأنظمة الانغلاقية اللائكية، ولا تجعله مستنَدا لتفويض إلهي قروسطي كما هو شأن الأنظمة الانغلاقية التيوقراطية. إن البيعةَ في نظام إمارة المومنين هي تعاقدٌ اجتماعي بين حاكِم ومحكوم تقوم على حقوق وواجبات يلتزم بها التزاما كلُّ طرفٍ من أطراف هذا التعاقد. وهذا ما يحرر نظام إمارة المومنين من كل نزعة استبدادية في الأرض باسم السماء، مثلما أن نظام البيعة موصول من جهة ثانية بالشرعية الدينية التي يكفلها الانتسابُ لآل البيت، ووظيفةُ حماية الملة والدين التي يضطلع بها أمير المومنين، مما يحرر الاختيارَ المغربي من تطرف اللائكية الذي يقصي كل دور للدين في الحياة العامة والمجتمع كما قلنا، وهو الإلغاء الذي يتعرض اليوم للنقد والمراجعة داخل البيئات الغربية نفسها. الأمر الذي كان قد نبَّه عليه أمير المومنين في خطابهِ أثناء زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب في 30-03-2019، حين أكد على أهمية الدين ودوره في الإسهام في حلِّ جملة من القضايا العالمية والكونية مثل التربية والفقر والهجرة والبيئة…أي حينَ أكَّدَ أن الدين ينبغي استحضارُه في السياق المعاصر بما هو جزءٌ من الحلِّ لا بما هو جزء من المشكلة؛ بخلاف الصورة التي يقدمهُ بها النظامان التيوقراطي واللائكي على السواء.
ولهذا حين يقول أمير المومنين في الخطاب المذكور: “واليوم، فإني بصفتي أمير المؤمنين، أدعو إلى إيلاء الدين مجددا المكانة التي يستحقها “؛ فإنه يدعو إلى الخروج من التطرفين اللائكي والتيوقراطي، والذهاب إلى تمثل النموذج المغربي الوسطي والمعتدل الذي وصفه جلالته بـ “الفكر الديني المتنور”، ضمن خطابه في حفل تنصيب “المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة” بجامع القرويين بفاس، بتاريخ 14 يونيو 2016. هذا النموذج الذي يقترح على الإنسانية الحديثة حَلًّا لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة؛ بحيث يخرج من قيدِ ثنائية الدولة الدينية أو الدولة اللائكية إلى “دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية”؛ كما جاء في “جـواب الـمجلـس العـلمـي الأعلى عـن اسـتـفـتاء أمـير الـمؤمـنين حول المصالح المرسلة”.
وبهذا الاعتبار، لا يمثل علماءُ الأمة في هذا المجلس أيَّ وصاية كهنوتية على عقول وأرواحِ الناس كما حصل في كنائسِ القرون الوسطى، وإنما يمثلون جهة “الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع”، نقرأ في هذا الجواب أيضا: “ومهمة العلماء في هذه الدولة هي أن يمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع، وهم يؤدون عملهم من موقع تأهلهم العلمي وقدرتهم على الكشف عن الحكم الشرعي، لا من موقع تفرُّدِهم بخصوصية معنوية تمنحهم سلطةً دينية لا تُرَاجع. وأقوالهم معرَّضَة للانتقادِ وللنقض إن أعوزها الدليل الشرعي أو انهارت أمام دليل شرعي أقوى، وقد قال الباقلاني: “إن المسلمين لا يحكمهم معصوم ولا عالِم بالغيب”، فمن ثم لم تكن الدولة الإسلامية دولةً تيوقراطية ولا دولةَ تفويض إلهي، وإنما كانت دولةً مدنية ذات مرجعيةٍ إسلامية لا غير”.
من هذا المنظور المتميِّز، الذي تبيِّنُه النصوصُ المرجعية الناظمة لنظام الإمامة في المغرب، وكذا الممارسةُ الرشيدة والسديدة لإمارة المومنين ضمن هذا الأفق، يقدم المغرب أنموذجًا متفرِّدا في السياق الحديث لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، يقول الأستاذ أحمد التوفيق في كلمة له أثناء حفل استقبال أمير المومنين للحبر الأعظم فرنسيس بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات بتاريخ 30-03-2019: “في سياق إمارة المؤمنين، تجد حلَّها كثيرٌ من الإشكاليات التي قد يشكو منها تدبيرُ الدين في جهات أخرى، ومنها إشكاليةُ حضور الدين في الدولة، وحمايته، وعلاقته بالسياسة، وبالحركات المسماة بالإسلامية، وبتطبيق الشريعة، وبالتيارات المتشددة، وبالحريات، وبالقيم الكونية، وبالتعليم الديني، وأخيرا مسألة العلاقة بالعلماء”؛ بمعنى أن إمارة المومنين، بهذا المنظور، تقدِّم مقترحا متفردا لإعادةِ ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة في السياق الحديث، بما يخرجنا من ضيق ثنائيات وإميات: إما الدولة الدينية أو الدولة اللائكية؛ دولة شرعية السماء والغيب، أو دولة شرعية الأرض والشهادة؛ بحيث يتم استحضار الشرعية الدينية داعمةً ومدعومة بالشرعية الاجتماعية؛ وهكذا تتقدمان بما هما شرعيتان متكاملتان متضافرتان لا متناقضتان متنافرتان؛ بحيث نستفيد من مزايا النظام الديموقراطي الحديث دون الوقوع في مطبات الـتفريطِ في مزايا الأثر التوحيدي والروحي والأخلاقي والإنساني لحضور الدين وقيمه النبيلة في المجتمع والتاريخ.
طبعا، مثل هذا المنظور يقتضي، من ناحية أخرى، اعتمادَ التجديد المتواصل لأمر الدين بما يلائِم صيرورة المجتمع وتغير التاريخ، وهو ما تضطلع به بجرأة ومسؤولية وتنويرية مؤسسةُ إمارة المومنين، ذاك ما أوضحه بعمق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في درسه الافتتاحي للدروس الحسنية الرمضانية الأخيرة (1445ه)، كما يدل على ذلك عنوانه: “تجديد الدين في نظام أمير المؤمنين”.
وبإجمال، فإن القصد الرئيس من هذا المقال هو بيان خصوصية التجربة المغربية في ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، بما يجعلها تفيد من مكتسبات الدولة الحديثة، ذات المعالم “العَلمانية”، لكن في ذات الوقت تحتفظ بخصوصية البعد الروحي والتشريعي والأخلاقي للدولة في المرجعية الإسلامية، وذلك بما يتيح لها تجاوزا عمليا لتطرف “العلمانية” في علاقتها بالدين وأبعاده الكونية الروحية والأخلاقية، وكذا تجاوز آفاتِ الدولة التيوقراطية الدينية التي تضفي القداسة على ممارسات واجتهادات بشرية في الحكم والتدبير، وتوقع المجتمع في مطبات لا تقل ضراوة عما توقع فيه العلمانية المتطرفة. إن الأنموذج المغربي يسعى إلى تجاوز النقص في النموذجين اللائكي والديني على السواء، وكذا تجاوزِ أسباب الاستبعاد المتبادَلِ بينهما، ومن ثم صياغة أفق ثالث يقوم على “فكر ديني متنور” يحتفى بالدين والإيمان وامتداداتهما في المجال العام على خلاف التطرف اللائكي، ويحتفي بالديموقراطية والعقلانية والمشاركة في الحكم والتدبير والقبول بشرعية الاختلاف على خلاف التطرف الديني أو الحكم التيوقراطي. ذاك ما تحققه مؤسسة إمارة المومنين، في نظرنا، بما هي عنوان دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.