حرب الصورة من الجولاني إلى الشرع
ذة.إيمان البياري دكتورة في القانون الخاص وباحثة في التواصل السياسي

نشهد في أيامنا هذه أحداثًا تاريخية كتبت حروفها بدماء الشعب السوري ونسجت صفحاتها من معاناته، أحداثٌ لا يمكن بأي حال أن يطويها النسيان أو تغيبها عتمة الذاكرة. وإذا كنا قد تابعنا على مر سنوات مضت مشاهد الدمار والتقتيل والتهجير عبر جرعات متباعدة، فنحن اليوم محاصرون بوابل من الشهادات والصور ومقاطع الفيديو التي تتجاوز قدرتنا على استيعاب هذا الدَّرك المقيت الذي انحدرت إليه الإنسانية.
تشير المشاهد المعروضة ليل نهار على شاشات القنوات الوطنية والدولية والمواقع الإلكترونية، في بعدها الإنساني، إلى حجم الكارثة التي ألمت بهذا البلد العظيم حضارة وشعبًا. غير أنها تشكل في بعدها السياسي مادة دسمة تشتغل عليها وسائل الإعلام فتُقلبها وتوجهها كيفما تشاء، خدمة لتوجهات خفية لن يطول بنا الزمن حتى نجد أنفسنا وجهًا لوجه أمامها وقد صارت واقعًا جديدًا يحكم المنطقة ويرسم معالمها.
وبما أن الصورة، في علاقتها بالزمن، وكما أشار إلى ذلك المنظر الفرنسي “بول فيريليو”، تمثل إيقاعًا متسارعًا يميت معنًى ويحيي آخر، فإننا اليوم نشهد عملية إعدام للكثير من المعاني وخلق معانٍ أخرى باستخدام مكثف وشرس للصورة. انسحبت صورة أبو محمد الجولاني، عضو تنظيم القاعدة والمصنف من قبل الولايات المتحدة كإرهابي، وهو يخفي وجهه بوشاح أسود، ثم يظهره لاحقًا وهو يرتدي الزي العسكري وعمامة تماثل عمامة ابن لادن، الزعيم السابق لتنظيم القاعدة.
ليحل محل هذه الصور، وقبل سقوط نظام الأسد، صورة رجل حسن الهيئة يرتدي بذلة رسمية، ذو نظرة هادئة وابتسامة قد تدعو للثقة، في لقائه الشهير مع الصحفي الأمريكي مارتن سميث.
أما اليوم، فنحن أمام صورة “البطل” الذي أنقذ البلاد والعباد من شر الطغاة، وهو يتنقل بين عامة الناس وخاصتهم، يوزع الابتسامات والآمال والوعود، ويدعوهم للتعبير عن فرحتهم بتعقل ودون إطلاق الرصاص، واعدًا إياهم بتحويل سجن صيدنايا إلى متحف حتى لا ينسى العالم ظلم وطغيان نظام الأسد.
لم يعد هناك وجود لشخص اسمه أبو محمد الجولاني؛ اختفى الاسم واختفى تاريخه معه. هو الآن القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع.
يتردد الاسم مرارًا وتكرارًا مقترنًا بفرحة النصر والتحرير، وتعرض صورة القائد الجديد مرارًا وتكرارًا مقترنة بخروج المعتقلين من السجون وعودة النازحين. شيئًا فشيئًا، يختفي الماضي القريب بما تمارسه الصورة علينا من نفوذ وسلطة، تجردنا من التاريخ حتى تتم إعادة برمجتنا على نحو أفضل.
تمامًا كتجربة “كاميرون بانوبتيكوما” لتفريغ الذاكرة بواسطة الصعق الكهربائي، حيث يتم توثيق أطراف المرضى على نحو يمنعهم من ملامسة أجسادهم بعد الصعق، بهدف منعهم من تشكيل صورة ذهنية لأنفسهم عن طريق اللمس. فاختفاء صور بذاتها وحجبها بوابل من الصور والمضامين والخطابات الجديدة والمختلفة تمامًا عن سابقاتها يوثق أبصارنا ويكبلها بهدف إفراغ ذاكرتنا البصرية.
إن الدور الذي يجب أن تضطلع به وسائل الإعلام في ظروف كهذه يتمحور أساسًا حول تشكيل وعي الجمهور من خلال تقديم طرح معقلن يجمع شتات الآراء، ويقدم قراءة موضوعية للتوجهات الجديدة للسياسات الدولية، بالاعتماد على ربط الماضي بالحاضر واستشراف التحولات المستقبلية للمنطقة.
غير أن ما نشهده الآن هو ممارسات إعلامية ممنهجة تهدف إلى خلق واقع بديل؛ إذ تنقل جانبًا من الحقيقة وتتغافل عن جوانب أخرى، ترصد حدثًا وتتجاوز أحداثًا، تحيي مشاهد وتعدم أخرى.
وإذا كان توفر الحياد في الممارسة الإعلامية في الحرب كما في السلم رهانًا يصعب تحقيقه، بل يستحيل في كثير من الأحيان، فإن ذلك لا يبرر بأي حال من الأحوال وجود منابر إعلامية هدفها الأساسي استغلال مآسي الشعوب وأزماتها لخدمة أهداف خفية.
فعلا أستاذتي نحن داخل حرب إعلامية تسعى لأهداف أكبر مما يتم بثه وتصويره