رأي

الإشكال في تغيير الأحكام، أم في محل النقاش؟

أيوب أبسومي باحث بسلك الدكتوراه - تخصص أصول الفقه

الإشكال ليس إشكالَ أحكامٍ جزئية، ولا مشكل بيتٍ تبقى فيه المرأة بعد طلاقها، ولا قضيةِ سفرِ ابنٍ مع أمه من دون إذن أبيه؛ ولكنه إشكالُ نسقٍ معرفي، ومنظومة كلية حديثة، تعد الحداثةُ أولَ أركانها، والمصلحة المادية أهمَ روافدها، والنظام البيروقراطي أبرز أنظمتها.

إذا ما ناقشنا النوازل التي تُطرح اليوم، فإننا لن نخرج بطائل؛ كلما قررنا حكما بمقتضى القواعد الشرعية إلا وانهالَت عليه الإشكالات من كل مكان. فأين مكمن الخلل؟

الخلل في نظري هو أننا نريد تنزيل أحكام شرعية في منظومة غير شرعية، وننتظر صدورها من أشخاص لا يتصورون حقيقة الشريعة كما ينبغي أن تكون، أو على الأقل في منظومة تقلصت فيها مساحة إعمال الشريعة، فلا يمكن مثلا أن نتحدث عن حكم السرقة الشرعي في مجتمع الفقيرُ فيه لا يأخذ حقه الشرعي إلى حد الأسى والألم جوعا!

هنا بالضبط أود الحديث عن أمرين أساسيين قلّ مَن تحدث عنهما:
1- بيت مال المسلمين ودور الدولة: عندما كانت الشريعة تُنَزَّل بجميع أحكامها، كان بيت المال يغطي ثغرات المجتمع المادية، وأحيانا الاجتماعية، فيعطي الفقيرَ حاجتَه، وتوزَّع أموالُه عليه وعلى إخوانه بحسب حاجاتهم وبمقتضى تقدير المسؤول عن هذا البيت لتلك الحاجة. أما اليوم، فإن الدولة لا تعطي الناس مجانا، حتى الدعم الذي يأخذه بعض المواطنين فإنهم يأخذونه بعد تمريغ أنوفهم في التراب، ولا يحق لهم أن يأخذوه إذا ثبت عنهم أن لهم ملكا، صغيرا كان أو كبيرا، نافعا أو غير نافع، حتى لو كان هذا الملك بيتا صغيرا لا خبز فيه!

إن التدبير المالي الآن لا يرى حقا للأرملة تأخذه من دون أن تحتاج إلى أن تذل نفسها لتَعُول أيتامها، ولا يمنح المطلقات ما يعففن به أنفسهن، فالنظام البيروقراطي لا يعترف إلا بالمصلحة والمنفعة والخدمة مقابل الأجر، ولا تقبل فيه النفقات التي لا مبرر لها (non justifié)، والتي تكبح جماح التعاطف من عدد من المسؤولين، لأن النظام لا يسمح بالعطاء هكذا لأنك فقير أو محتاج، ولا يستثنى من هذا إلا النادر القليل! فهل منكم من رأى فقيرا محتاجا أخذا شيئا فقط لأنه محتاج؟ وهل منكم من رأى أرملة يدفع لها مسؤول أجور كرائها من المال العام من غير أن تكون من صدقاته وإحسانه؟ أرجو أن أكون مخطئا!

2- الزكاة: لم تكن الزكاة ركنا من أركان الدين عبثا، ولم يجعلها النبي صلى الله عليه وسلم وصيتَه لعماله ورسله بعد الشهادتين، ولا ذكرها الله تعالى في كتابه قرينةً للصلاة إلا لأنها ركنُ قيام الأمة الإسلامية، فإذا كان الدين منخرما بترك الصلاة، فإن الأمة تنخرم بترك الزكاة، والأسئلة المطروحة هنا:
– لماذا لم تتم مناقشة الزكاة وفرضها على الأغنياء فرضا تقارنه المحاسبة كما كان الحال أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومن أتى بعدهما؟ لماذا لا نطرح قضية الزكاة والتدابير التي تُتخذ لجمعها وتوزيعها؟
– أليست زكاة مليارات السنتيمات التي يملكها آلاف الأفراد كافية بأن تعول أسرا لا حصر لها، وأن تقلص نسبة الهشاشة والفقر؟
– أليس في المجتمع أرامل لا حصر لهن لا يردن شيئا سوى من يعولهن وأبناءَهن؟
– لماذا تضطر أولئك الأرامل إلى الخروج وترك أبنائهن في الشوارع أو عند الجارات أو في الحضانات تحت ظلال الواقع البئيس، في حين لديهن الحق الشرعي في مال الزكاة الذي فُرض على الجميع؟
– ألم يفكر هؤلاء الأغنياء والمسؤولون في هذا الحل الذي سيزيح أزمة الفقر عن شريحة كبيرة ويعيد (كرامة) المرأة التي يُعد الفقر أحد أبرز أسباب تمريغها وتدنيسها؟

قبل أن نناقش فروعا فقهية جزئية، كان الأحرى أن نناقش أصول هذا الفكر، ومن أين يستمد تصوره، وأين أصل الإشكال ومنبعه!

الشريعة لا تقبل التجزيء، ومتى جزأناها ظهر خلل أحكامها، لأن الله تعالى يقول: {أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ}

اللهم لا تخزنا ولا تعذبنا، فإنا بك وبدينك مؤمنون، وبشرعك ما حيينا عاملون، وإنا بك وحدك لا شريك لك مستجيرون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى