رأي

وقفات فقهية نقدية مع تعديلات المدونة الأسرية (3)

د. أنس القرباص

بينا في المقال السابق أن استثناء بيت الزوجية من التركة، هو أمر يخالف نصوص الشريعة وقواعدها، وأنه يؤدي إلى التصرف في التركة بغير الوجه الذي أنزله الشارع الحكيم، وفي هذا المقال سنقف بحول الله وقوته مع التعديل الثالث من التعديلات الأسرية، والمتعلق باعتبار عمل الزوجة المنزلي مساهمة في تنمية الأموال المكتسبة خلال قيام العلاقة الزوجية.

 

المسألة الثالثة: اعتبار عمل الزوجة المنزلي مساهمة في تنمية الأموال المكتسبة خلال قيام العلاقة الزوجية.

 

وحاصل هذا التعديل: أن المال الذي سيكسبه الزوج مدة الزوجية من خلال كده وعمله ومجهوده وعرق جبينه، سيكون لزوجته – التي تخدمه في المنزل – منه نصيب وحق على وجه الإلزام والإجبار.

 

وهذا القول بهذا الوجه، لم يقل به أحد من العلماء، ومخالفته لقواعد الشريعة ونصوصها أمر ظاهر وبين، والأدلة على هذا كثيرة ومستفيضة، منها:

 

أولاً: من القرآن الكريم.

 

1- قوله تعالى: “للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، وللنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ” (النساء: 32)، فهذه الآية تنص بشكل صريح على أن كسب الرجال للرجال، وكسب النساء للنساء، وأن كل جنس يختص بكسبه، والآية تعم الأزواج والزوجات وغيرهم، وهي مُطلقة فتشمل جميع المكاسب، وإن وردت لسبب خاص فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، وهذه الزوجة لا كسب لها فيما استفاده الزوج، وبالتالي: فلا تشاركه فيما كسبه. (انظر: إشكالية الأموال المكتسبة مدة الزوجية، للشيخ محمد التأويل رحمه الله، ص: 3).

 

2- وقوله سبحانه: “وأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى” (النجم: 39)، فظاهر الآية يفيد أن كسب الإنسان مرهون بسعيه وعمله، سواء أكان رجلا أم امرأة، والزوجة في هذه الصورة المذكورة، لم تسعَ ولم تعمل، فكيف يقضى لها “بوجوب” نصيب دون سعي منها ولا عمل؟

 

3- وقوله عزوجل: ” وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا” (الأنعام: 164)، ومثله قوله عزوجل: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ‌وَعَلَيْهَا ‌مَا ‌اكْتَسَبَتْ” (البقرة: 286)، فالآيتان مطلقتان تتحدث عن عموم الكسب، سواء أكان دنيويا أو أخرويا.

قال الإمام ابن حزم رحمه الله في هذه الآيات: “هذا كله عموم في الدنيا والآخرة، لأنه لم يأت بتخصيص شيء من ذلك قرآن، ولا سنة، فمن ادعى في ذلك تخصيصا فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم، وأما نحن فقد قلنا: ما نعلم، لأن الله تعالى لو أراد تخصيص شيء من ذلك لما أهمله ليضلنا ولبينه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم المأمور ببيان ما أنزل عليه، فإذ لم يخبرنا الله تعالى ولا رسوله عليه السلام بتخصيص شيء من ذلك، فنحن على يقين قاطع بات على أنه تعالى أراد عموم ما اقتضاه كلامه”. اهـ (المحلى بالآثار، لابن حزم، 6/412).

وعلى هذا، فلا حظ للمرأة – “العاملة في البيت” – فيما كسبه الزوج بعرق جبينه؛ لأنها لم تشاركه في العمل والكسب.

 

4- وقوله تعالى: “يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل”، وأكل أموال الناس بالباطل له صور كثيرة، منها: الظلم – كما نص على ذلك الإمام الطبري-؛ وذلك بأن تأخذ ما ليس لك دون أن يكون لك فيه حق شرعي، ومنه: هذا الكسب الذي أضيف إلى الزوجة.

 

ثانيا: من السنة النبوية.

 

1- قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا تصدقت المرأة من طعام زوجها، ‌غير ‌مفسدة، كان لها أجرها، ولزوجها بما كسب، وللخازن مثل ذلك” (متفق عليه، واللفظ للبخاري).

والاستدلال بهذا الحديث على المطلوب من أوجه كثيرة، أهمها:

 

أ‌- أن النبي صلى الله عليه وسلم، أسند “الطعام” إلى مالكه الحقيقي الذي هو الزوج، في قوله عليه الصلاة والسلام “من طعام زوجها”، وفي رواية أخرى صحيحة جعل النبي صلى الله عليه وسلم البيت بما فيه، لمالكه الذي هو الزوج، فقال: “إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها”.

 

ب‌- أن النبي صلى الله عليه وسلم “نصَّ” في الحديث على أن أصل المال الذي أنفق، هو من كسب الرجل، أي: هو من ملكيته، وذلك في قوله: “ولزوجها بما كسب”، فلم ينسب صلى الله عليه وسلم الكسب إلى الزوجة؛ لأنه لا مدخل لها فيه.

 

2- وقوله عليه الصلاة والسلام: “لا ‌تنفق ‌امرأة شيئا من بيتها، إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: “ذلك أفضل أموالنا” (رواه الترمذي)، وفي رواية لأحمد وأبي داوود والنسائي وغيرهم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: “لَا ‌يَجُوزُ ‌لِامْرَأَةٍ ‌عَطِيَّةٌ، إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا”.

 

ووجه الاستدلال بهذا الحديث، أن النبي عليه الصلاة والسلام نسب الأموال والطعام إلى الأزواج بقوله: (أموالنا)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه صلى الله عليه وسلم، قيد الإنفاق من البيت بإذن الزوج، وهذا التقييد يدل على أن الزوج هو مالك المال، وهو المتصرف فيه على وجه الحقيقة، وأن الزوجة ليست شريكة له في هذا المال، ولو كانت شريكة لزوجها في ماله، لما اشترط النبي صلى الله عليه وسلم عليها إذن زوجها.

 

وهذا الحديث بالمناسبة يقيد الحديث السابق؛ إذ لا يجوز للمرأة أن تنفق من مال زوجها دون إذنه؛ ولذا بوب الإمام مسلم أحاديث هذا الباب بقوله: “باب أجر الخارق الأمين، والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة، بإذنه الصريح أو العرفي”. (صحيح مسلم، 2/710).

 

3- حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: “دخلت هند بنت عُتْبَةَ- امرأَة أَبِي سفيان- على رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ، إلاَّ ما أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رسول الله: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ” (متفق عليه).

 

والاستدلال بهذا الحديث على المطلوب من وجوه:

 

أ‌- أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب المال إلى الزوج الذي هو أبو سفيان.

 

ب‌- أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهند في أخذ “مال النفقة” وحده، وذلك بقوله: (خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ)، ولم يرخص لها في أن تأخذ مالا زائدا على مال النفقة، ولو كان هذا مشروعا لبينه لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة مع شدة حاجتها.

 

ج- أن هند زوجة أبي سفيان نسبت المال إلى زوجها (مِنْ مَالِهِ)، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

والأحاديث الدالة على هذا المعنى مستفيضة، ليس هذا محل استقصائها وتتبعها.

 

ثالثا: التواتر المعنوي.

 

لا جرم أن الأدلة والنصوص الدالة على أن مال الزوج هو له دون زوجته، بلغت بمجموعها حد التواتر المعنوي الذي يفيد القطع واليقين؛ وذلك كالآيات التي جعلت كسب الإنسان مرهونا بسعيه وعمله، وكالأحاديث التي تجعل مال الزوج له دون زوجته، وكالآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم القولية والعملية، حيث كانوا ينسبون الأموال لأنفسهم، ويتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه من غير استشارة لأزواجهن… (انظر: إشكالية الأموال المكتسبة مدة الزوجية، للشيخ محمد التأويل، ص: 6، وما بعدها)، إلى غير ذلك من النصوص والآثار والوقائع التي تضافرت على معنى واحد، وهو: أن الزوج هو المالك الحقيقي لماله، وأن خدمة المرأة لزوجها في بيتها، لا توجب لها حقا في ماله.

(يتبع ……)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى