رأي

وقفات فقهية نقدية مع تعديلات المدونة الأسرية (5)

حرره: د. أنس القرباص.

“هل يجب على الزوجين قضاء ديون بعضهما البعض؟”.

أكدنا في مقالنا السابق أن العمل المنزلي لا يعد – وفق قواعد الشرع – إسهاما من الزوجة في تنمية أموال زوجها، وأوردنا على ذلك البراهين والحجج من الكتاب والسنة والتواتر المعنوي، وفي هذا المقال سنقف بحول الله وقوته مع التعديل الرابع من التعديلات الأسرية، الذي ينص على ” جعل ديون الزوجين الناشئة عن وحدة الذمة على بعضهما ديونا مقدمة على غيرها بمقتضى الاشتراك الذي بينهما”.

المسألة الرابعة: جعل ديون الزوجين الناشئة عن وحدة الذمة على بعضهما ديونا مقدمة على غيرها بمقتضى الاشتراك الذي بينهما.

وهذا التعديل يعني: أن الزوج سيكون ملزما -إلزاما إجباريا – بأداء الديون التي هي في ذمة زوجته، وأن الزوجة ستكون كذلك ملزمة، بأداء الديون التي هي في ذمة زوجها، وهذا كله بناء على ما اصطلح عليه في التعديل بـــــ”وحدة الذمة”. أو “الاشتراك في الذمة”.

وهذا القول مخالف لأصول الشريعة وقواعدها، بل لا يُعلم له قائل من أهل العلم والفقه لا قديما ولا حديثا، ووجه مخالفته للشريعة يتجلى في مجموعة من الأمور:

1- مخالفته للعموم المأخوذ من ظواهر النصوص الذي يفيد أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد آخر، وذلك مثل قوله تعالى: “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” (سورة فاطر: 18)، وقوله سبحانه: “وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا” (سورة الأنعام: 164)، وقوله عز من قائل: ” وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ” (سورة النجم: 39)، وغيرها من الآيات المعروفة.

والأصل في هذه الآيات وأشباهها أنها مطلقة وعامة، ولو ثبت أن لها أسباب نزولٍ خاصة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا، فإن الآيات المذكورة متعلقها محذوف، وحذف المتعلق يفيد العموم كما هو معلوم.

2- معارضته لقاعدة “الأصل في الذمة البراءة”.
من القواعد الشرعية التي قررها علماء الفقه والأصول، أن الأصل في ذمة الإنسان البراءة، ومستندهم في هذا الأصل هو استصحاب حال العقل القاضي بهذا الحكم، قال الإمام الباجي: “أدلة الشرع ثلاثة أضرب أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال، والكلام ها هنا على استصحاب الحال، وهو على ضربين: أحدهما: استصحاب حال العقل، وذلك إذا ادعى في المسألة أحد الخصمين حكما شرعيا، وادعى الآخر البقاء على حكم العقل، وذلك مثل: أن يسأل المالكي عن وجوب الوتر، فيقول: (الأصل براءة الذمة وطريق اشتغالها الشرع، فمن ادعى شرعا يوجب ذلك فعليه الدليل)، وهذه طريقة صحيحة من الاستدلال “. (الإشارة في أصول الفقه، لأبي الوليد الباجي، ص: 322-323).

وقال العز بن عبد السلام: ” إن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من ‌حقوقه ‌وحقوق ‌العباد، ‌إلى ‌أن ‌تتحقق ‌أسباب ‌وجوبها” (قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/51).

فالأصل إذن، أن ذمة الإنسان بريئة من الحقوق -سواء أكانت حقوق الله أو حقوق عباده- ما دامت لم تتحقق أسباب وجودها، وبمقتضى هذه القاعدة الشرعية، فإن القول بجعل ذمة الزوجين مشتركة أو واحدة لمجرد زواجهما، ومن ثم ضرورة أن يقضي كل واحد منها ديون الآخر، هو قول باطل؛ إذ لا دليل عليه من الشرع.
وهذه القاعدة بالمناسبة هي قاعدة عامة في الحقوق والعبادات وتحمل المشاق، وهي ثابتة بالدليل العقلي القطعي كما نص على ذلك سيف الدين الآمدي. (انظر: الإحكام في أصول الأحكام، 4/384).

4- مناقضته لمبدأ “استقلال الذمة” المالية بين الزوجين، فللزوج ذمته، وللزوجة ذمتها، وقد نص الفقهاء على أن من خصائص الذمة في الإسلام أن “لكل شخص ذمة واحدة، وأنه لا اشتراك بين أشخاص في الذمة” (انظر: الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي، 4/2889)، ومما يؤكد هذا المبدأ، أن الشريعة الإسلامية أجازت للمرأة أن تتصرف في مالها بمختلف أنواع التصرف، والأصل في ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” كلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بماله مِن والدِه ووَلَدِه والناسِ أَجمَعِينَ” (رواه الدراقطني، وغيره).

4- أن الاشتراك في الذمة لا يعد من مقتضيات عقد الزواج.
لم ينص أحد من العلماء أو الفقهاء على أن من مقتضيات عقد الزواج وآثاره الاشتراك في الذمة المالية بين الزوجين، وهذا محل إجماع، لا نعرف فيه قولا مخالفا.

5- إلحاقه الظلم بأحد الزوجين.
لا شك أن هذا التعديل الذي أقرته المدونة الجديدة، يؤدي إلى إحقاق الظلم والضرر بأحد الزوجين، وذلك لو أن زوجا اقترض 100 مليون سنتيم من أجل مشروع ما، ثم فشل هذا المشروع، ألا يكون إجبار الزوجة على أداء ديون زوجها ظلما لها؟ وكذلك ما إذا اقترضت هي المبلغ ذاته، وألزمنا زوجها بسداد الدين عنها، ألا يكون ذلك ظلما له؟ أليس العدل يقتضي أن يكون قضاء الدين واجبا على من استدان واستقرض؟

(يتبع ……)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى