تنظيم مهنة التفتيش التربوي بين منطق المهننة ومنطق الريع. المادة 76 نموذجا
بقلم: قاسم العلوش، باحث في السياسات التعليمية

مقدمة:
وتفصيل ما سبق يكون على الشكل التالي:
وفقا للمرسوم رقم 328-24-2 بتحديد اختصاصات وتنظيم قطاع التربية الوطنية والتعليم الأولي الصادر في 2 غشت 2024، فإن السلطة الوصية المركزية للتربية والتكوين تتكون من جهاز تدبيري ضخم يضم ما يقرب من 18 مديرية مركزية تترأسها الكتابة العامة للوزارة ومفتشيتين (02) عامتين. إن هذه التركيبة لا تخرج عما هو مألوف في باقي القطاعات الوزارية الحكومية الأخرى التي تتكون من أجهزة تقوم بمهام الإدارة والتدبير وأخرى تقوم بمهام المراقبة والتفتيش وهي، في حد ذاتها توليفة دولية معمول بها عالميا. ولا يخفى على أحد أهمية كل جهاز في القيام بأدواره المنوطة به وفق القوانين والتشريعات الوطنية التي تهدف إلى ضمان التدبير الجيد القائم على ربط المسؤولية بالمحاسبة وفق مبادئ الحكامة الجيدة المدسترة.
وعلى نفس المنوال سار مرسوم النظام الأساسي رقم 140-24-2 الصادر في 23 فبراير 2024 الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية، حين نص في المادة 09 من الباب الثاني على أن الموظفين التابعين للوزارة المكلفة بالتربية الوطنية يتكونون من الهيئات التالية: هيئة التربية والتعليم، وهيئة الإدارة التربوية والتدبير، وهيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم، وهيئة متصرفي التربية الوطنية، وهيئة الأساتذة الباحثين في التربية والتكوين. وقد عمل المرسوم على تحديد مكونات ومهام وأدوار كل هيئة وبيان مسارها المهني.
غير أن الجميع يتذكر المخاض العسير الذي مر منه صدور هذا المرسوم، منذ صدور نسخته الأولى في 10 أكتوبر 2023 المعيبة، وإلى غاية صدور النسخة الأخيرة المعتمدة في 23 فبراير 2024، الذي تسبب في شل الحركة التعليمية بالمغرب نتيجة الإضراب المتواصل للأطر التربوية لما يقرب من 04 أشهر. ورغم التعديلات المتكررة التي عرفها المرسوم في إطار اللقاءات (الماراطونية) التي عقدتها الوزارة الوصية مع مختلف التمثيليات النقابية وخاصة النقابات الخمس الأكثر تمثيلية، فإن الصياغة القانونية ومضامين بعض مواده تميزت بمخالفاتها للمراجع المؤسسة والمؤطرة لمنظومة التربية والتكوين ببلادنا وعلى رأسها الدستور المغربي، والقانون الإطار رقم 15-17، إضافة إلى الأطر والمبادئ الناظمة لإصلاح نظامنا التعليمي المتضمنة في كل من الميثاق الوطني لإصلاح منظومة التربية والتكوين، والرؤية الاستراتيجية 2015-2030. وأخص هنا بالذكر المادة 76 المشار إليها في مقدمة هذا المقال.
إن إدماج أطر تنتمي، وفق المرسوم الجديد، بعد الاستفادة من تكوين خاص (مجهول الهوية، لا هو مستمر ولا هو أساسي، ولا يستند مقدموه في مشروع القرار الوزاري الخاص بتطبيق مقتضيات المادة 76، على القانون الإطار رقم 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي)!!! ونعني هنا إطار مستشار في التوجيه والتربوي الذي ينتمي إلى هيئة التربية والتعليم (المادة 10)، وإطار مستشار في التخطيط التربوي، وإطار ممون اللذان ينتميان إلى هيئة الإدارة التربوية والتدبير (المادة 16)، في إطار مفتش، الذي ينتمي إلى هيئة مغايرة ومختلفة عن كل من هيئة التربية والتعليم وهيئة الإدارة التربوية والتدبير، لا من حيث المسار التكويني والأكاديمي ولا من حيث المهام والأدوار، وهي هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم، هو إدماج أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه يضرب مبدأ تراتبية القواعد القانونية الدستورية، حيث تخالف بعض مواد مرسوم تنظيمي لقطاع التربية الوطنية، وهو نص أدنى، نصا تشريعيا بمثابة قانون إطار رقم 51-17، وهو نص أعلى ناظم لسيرورة إصلاح منظومة التربية والتكوين، كما يضرب مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص، ناهيك عن معارضته لتوجهات الإصلاح التربوي المنخرطة فيه بلادنا منذ ما يقرب من ربع قرن (25 سنة) والذي يروم خلق منظومة تربوية ذات جودة ومنصفة للجميع.
في الواقع، لا أحد يعارض التحاق تلك الأطر المشار إليها في نص المادة 76 من المرسوم، بهيئة التفتيش إن هي خضعت لنفس المعايير التي خضع ويخضع لها لحد الآن الأطر التي التحقت بمراكز تكوين المفتشين بعد اجتياز مباراة وطنية خاصة بذلك والدخول في نفس المسار الجاري به العمل الذي يراعي بُعدُ التكوين الأساس الذي أكد عليه المجلس الأعلى للتربية والتكوين في تقريره السالف الذكر، مع استحضار ذلك الفارق المنهجي بين مفهوم التكوين الأساسي ومفهوم التكوين المستر، فالأول يستهدف الفئات التي تلج مهنة ما أول مرة بقصد تأهيليهم وتنمية قدراتهم، والرفع من أداءهم وكفاءتهم المهنية… مع مراعاة خصوصيات كل صنف من أصناف التكوين (المادة 39 الفقرة 01 من القانون الإطار رقم 51-17)، بينما يستهدف النوع الثاني الفئات التي تنتمي لنفس المهنة وذلك بغرض تطوير مهاراتهم وتحسين مردوديتهم (الفقرة 02 من المادة 39 من القانون الإطار). لكن هذا التوجه المخالف الذي سلكته الوزارة، وبضغط حثيث من قبل توجهات نقابية لها، بحسب العديد من المتتبعين للشأن التربوي، هواجس “ريعية“ (تحقيق مكاسب مالية لمنتسبيها)، و“انتخابوية“(جلب أصوات انتخابية للاستحقاقات المقبلة في أفق 2026-2027) أكثر منها هواجس ترمي إلى النهوض بأوضاع مهن التربية والتكوين. هو توجه يضرب في الصميم خيار مهننة مهن التربية والتكوين، الذي أصبح توجها استراتيجية مُؤسَّساً في الأطر المرجعية والقانونية الجامعة لمنظومة التربية والتكوين لأجل معالجة الاختلالات التي تعرفها المنظومة والمتعلقة بمهننة وتأهيل مختلف الفاعلين التربويين والرفع من مؤهلاتهم وذلك لإنجاح مسار الإصلاح التعليمي ببلادنا بحسب تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين الصادر في فبراير 2018. والذي يدفع إلى القول بهذا الاستنتاج هو ظهور مجموعة من المؤشرات إلى الواجهة، في الأسابيع الأخيرة، من خلال القرارات التي تصدرها الوزارة لأجل تنزيل وتفعيل مضامين العديد من مواد مرسوم النظام الأساسي، ومنها تلك المتعلقة بتفعيل مادة الإدماج (المادة 76) في هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم، والتي تهم ضمان الاستفادة المدمجين من مستشاري التوجيه التربوي والتخطيط والممونين في هيئة التفتيش دون المرور من مسار التكوين الأساس، خاصة وأن الأمر يتعلق بتغيير الإطار، وتغيير المهام، والوظائف، والأدوار، الذي تضمنه مؤسسات تكوين الأطر المعنية ومنها مركز تكوين مفتشي التعليم.
كما أن هذا التوجه يضرب مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص بين مختلف هيئات التربية الوطنية، وخاصة هيئة التفتيش، كوننا سنصبح أمام نوعين من المفتشين، مفتش خريج مراكز تكوين المفتشين الذي التحق بهيئة التفتيشبناء على مباراة وطنية، وتكوين أساسي وفق مصوغات متخصصة ومتنوعة لمدة سنتين، و08 دورات تدربيبة ميدانيةعلى الأقل، وبحث التخرج في نهاية التكوين مع تعيين وطني أو جهوي في بعض الأحيان، وما صاحب ذلك كله من تضحية بالأقدمية في الدرجة والرتبة للبعض منهم، وما تم بذله من جهد مالي، ومادي، ونفسي، واجتماعي لأجل تعزيز التكوين الأكاديمي لخريجي المركز، وتأهيلهم وتنمية قدراتهم، والرفع من أدائهم وكفاءتهم المهنية. ومفتش مدمج وفق المادة 76 لن يخضع لتكوين أساسي وفق الشروط المحددة في مراكز تكوين مفتشي التعليم (حسب بعض المقترحات المقدمة والمسربة من قبل بعض النقابات فإن التكوين الخاص قد يستغرق مدة زمنية من 03 إلى 06 أشهر ويُزاوج فيه بين تكوين حضوري وآخر عن بعد، ينتهي بتقديم تقرير من قبل المعنيين عوض بحث تخرج وشتان بين الأمرين) مع الاحتفاظ بمنصب التعيين، والاستفادة من الإدماج في إطار مفتش منذ 01 يناير2024، مع أقدمية اعتبارية سنتين تجعل منهم مفتشين منذ 2022، وإن لم يقدم طلب الإدماج في الإطار إلا بعد 06 سنوات وهي المدة المسموح بها بتقديم تلك الطلبات، أي في أفق سنة 2030، مما يصيب المتفشين المتدربين حاليا والذين تخرجوا منذ سنتين قبل من مركز تكوين المفتشين أمام غبن بين وظلم تشريعي واضح صادر عن السلطة الوصية.
خاتمة:
يعد الالتزام بمبادئ المشروعية، والتراتبية القانونية، والتوازن، والإنصاف وتكافؤ الفرص أهم محددات صياغة السياسات العمومية ذات البعد التشريعي والتنظيمي. وهي كلها مبادئ تهدف إلى جعل تلك السياسات تخدم الصالح العام دون تمييز بين فئات المجتمع وأفراده. ونفس المنطق يحكم حالة السياسات التي تهدف إلى تنظيم موظفي هيئات مهنية، سواء كانت هيئات عامة حكومية أو هيئات خاصة، من خلال تنظيم وتوحيد معايير وشروط الولوج للمهنة وضمان نفس المسار المهني. كما أن سياسة توزيع المنافع، على المنتسبين لتلك الهيئات، وفق السياسات التوزيعية وإعادة التوزيع، يجب أن يحتكم لنفس المبادئ ونفس المنطق، وكل سياسة تخالف تلك المبادئ الناظمة للسياسات العمومية ستخلف ضحايا جدد، وستنشئ عداوات بين أعضاء الهيئة الواحدة، وهو ما سيعطي نتائج عكسية لما تتوخاه تلك السياسات، كما سيكون لها بالغ الأثر على جودة وفعالية تلك السياسات، وستنتج مشكلات أكثر من تلك التي جاءت لحلها.