رسالة محذرة ومنذرة للمعوقين المثبطين للهمم الساعين لإحباط من ينشدون العزة لبلوغ القمم
بانقداح الشيخ عبد اللطيف بوعلام الصفريوي

هناك ملحوظة وهي أسُّ ثقافة هذا اليأس الداب في معظم الناس: لقد التقيت ثلة معتبرة من الإخوة الذين أحسَبهم على مستوى الفهم والعلم، فطلبوا مني راجين محاولة اختصار المقالات الـمفيدة التي تحبكها أناملي ساعات طوالا على لوحة شاشة هاتفي الـمضنية في الكـتابة، فاستغربت من ملتمسهم هذا محدثا نفسي: هل هذه هي الأمة التي خاطبها رب العزة ابتداء بفعل: ﴿اقــرأ﴾ الـموصل إلى الرفعة والخيرية الـمنشودة في: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾، وأين هي أيام الزمن الجميل التي كانت الكتب يتمنطق بها الكل، يذرعها جيئة وذهابا، سارحا في سطورها إلى النهاية كالكاسكروطات والـمعقودات والأكلات الخفيفة، دون تعليق على هؤلاء العاجزين الـمستغرقين في الـملذات، وكيف أستغرب هذا الأمر والقرآن مهجور لا يتعهدونه إلا في رمضان ويسمعونه في المناسبات بحيث (ما كاين ما يدار)، ثم إني لا أكتب لـهؤلاء الذين يرون في سطوري التي أتعب في نسجها على الكيفية الإنصافية الـمُرضية، فأنا أخط للطائفة الـمنتحرة بخنجر الحرف في زمن الزيف والخسف والنسف محاولا تـنويـرهم ولفت أنظارهم إلى الظواهر الغريبة على الجسم الإسلامي واللحمة العربية دون قدح أو جرح أو تحيز لطائفة معينة: ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله﴾.
ولنبدأ مقالنا، ومن رآه طويلا، فرجاء لا يفتحه حتى لا يتعب نفسه في قراءته، وليضرب الذكر صفحا عنه، وليشغل نفسه بسفساف الأمور: (قاصح ولا كذاب)، ومعذرة لكل الأحباب على هذا العتاب.
هذا، ولقد كثر في زماننا – مع كامل الأسف – هذا الصنف من المعوِّقين لأي تقدم ونصرة للدين القويم، ثم إن العليم الخبير نبأنا في كـتابه الـمبين بما تفعله هذه الفئة الـمنافقة الصارفة لـمسيرة الإسلام عن الجهاد والتقدم والبناء والتطوير، والذين يدعون الـمؤمنين صراحة إلى عدم التمسك بحبل الله الـمتين، وإلى التعلق بالدنيا وزهرتـها كالأوروبيين، والدول الـمقررة للمصير، والركون إلى الدَّعة والـمسكنة، والبعد عن كل ما فيه عز تعاليم دستور رب العالـمين من العلم والخير والبأس والقوة متجليا ذلك في قوله تعالى بسورة الأحزاب: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْـمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (18).
والمعوِّق في اللغة: هو الذي يضع العوائق أمام مرادك، ويُثبِّط هِمَّتك ويُخذِّلك بقوله: (مشى علينا الكار، لبلاد زايدة فالخسران، لبلاد مشات آحمادي، هاذا زمان لعجب ما بقى ما يعجب..)، وغير ذلك من الأفكار التيئيسية التي تجري على ألسن فراخهم لإقناع العامة بالذلة والـمسكنة. والعائق لغة: هو الصارف عما يراد من خير، ومنه عوائق الدهر.
قال الشيخ الشنقيطي في الأضواء بمعرض تلك الآية السالفة والخاصة بالتعويق: ” ومن ذكر أسباب الـهزيمة من رعب القلوب، وأسباب النصر من السكينة والطمأنينة، تعلم مدى تأثير الدعايات في الآونة الأخيرة، وما سُمي بالحرب الباردة من كلام وإرجاف مما ينبغي الحذر منه أشد الحذر “.
ومع ما تعانيه اليوم البشرية من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ومن الركون إلى الدنيا والتعلق بتطورات التكنولوجيا في صناعة الإعلام تجد هؤلاء الـمعوقين منتشرين في وسائل الإعلام الاجتماعي متسَمين بأسماء مسلمة ولحى شمطاء مستعارة، ودكتورات مفتعلة هدفهم إلقاء الشبه على القرآن والسنة وعلماء الأمة، طعنا في مصداقيتهم رافعين بكل نشوة وتشفٍّ راية الإلحاد، والحال أنه قد فُتحت لهم جميع الطرق والدروب والقنوات لنشر كفرهم البواح، ولا اعتراض أو نكير على ما يبثونه من سموم وأفكار تيئيسية لأي محاولة تسعى لضبط الـمسار وتقويم المسير.
والمسلمون اليوم أكثر من ذي قبل بحاجة إلى من يزرع فيهم العزة والتفاؤل لا من يحاول إقناعهم بالرضا بـهذا الانبطاح والخذلان الذي سرى في الأجسام، فنخرها، وجعلها مستسلمة خانعة راضية بالواقع الـمريــر.
يُحكى أن سيدنا عيسى عليه السلام مر ببعض مرافقيه من الحواريين على خنزير أكله الدود وفاحت رائحته، فقال بعضهم: «ما أنتنه، فأجابـهم: نعم، ولكن انظروا إلى بياض أسنانه». ذلك أن الواجب تجاه ربنا ونبينا وأمتنا يقتضي منا النظر إلى الجانب الإيجابي فننميه، وإلى الخير فنثني عليه ونزكيه، لا أن نكون معاول للهدم والإحباط الكلي لكل محاولة تسعى لاسترجاع الـماضي التليد.
والـمتفرس في أوضاعنا ومآلاتنا الحالية لا يكاد يجد من يبث الخير سوى سب ولعن الزمان دون تقديم لـمعة إصلاحية عساها تكون بداية نورانية للخروج من هذا الفكر الانهزامي الذي عشش في العقول منذ قرون، وطال كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والسبب يُعزى في نظري إلى التكالب على الدنيا والارتـماء في أحضانـها إلى حد النخاع. قال رسول الله ﷺ: «والله لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُـهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْـهُمْ»، فلا همَّ للأمة إلا صراعاتهم الـمستميتة في الـمنافسة الـمحمومة والـمسعورة حول حطام الدنيا الفانية..
ولما علم الآخرون تسارعنا نحوها زينوا لنا مباهجها الفاتنة، وهذا هو سبب كل فشل في تغليب الدنيا على الآخرة. قال تعالى بسورة آل عمران: ﴿وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسّونَـهُم بِإِذنِهِ حَتّى إِذا فَشِلتُـم وَتَنازَعتُـم فِي الأَمرِ وَعَصَيتُـم مِن بَعدِ ما أَراكُم ما تُحِبّونَ، مِنكُم مَن يُريدُ الدُّنيا وَمِنكُم مَن يُريدُ الآخِرَةَ﴾ (152). ذلك أن حب الدنيا مثلبة للإرجاف والتعويق والتثبيط الذي له أثر خطير على المسلمين، ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾، ومع ذلك فالخير باقٍ في أمتنا الإسلامية إلى يوم الدين، والأمل والتفاؤل ممدود فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليـها، وسنة الله اقتضت أن جعل بعد العسر يسرًا وبعد الضيق فرجًا. قال رسول الله ﷺ: (من قال هلك الناس فهو أهلكَهم)، وفي رواية أهلكُهم، لأنه ألبس الناس لباس اليأس والقنوط من رحمة الله وأيَّسهم من محاولة الترميم ونشر الخير العميم، والـمسلم مأمورٌ بإعمار الأرضِ سالكا نـهج الصلاح والإصلاح في كل أحواله، والنفع لنفسه ولغيره حتى ولو لـم يَرَ ثَـمرة عمله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتْ السَّاعةُ وَبِيَدِ أًحَدُكُمْ فَسِيلَةٌ (شتلة أو كل نبتة صالحة للغرس)، فَإِن اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتى يَغْرِسَـهَا فَلْيَفْعَلْ». القمة العليا في الإيجابية والعطاء.. فلله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..