رأي

سلسلة غزاويات طوفان الأقصى

كتبها: ذ. نورالدين الهادي

وانتصرت غزة العزة

هنيئا لغزة التي انتصرت انتصار الصابرين المحتسبين، انتصرت الأم الفلسطينية التي أنجبت وربت رجالا شجعانا قدمتهم الواحد تلو الآخر مقاتلين وشهداء فداء لأرض الأقصى وأرض الأنبياء، استطاع الشعب الفلسطيني في غزة بصموده الأسطوري وبسالته وصبره إفشال كل أهداف وخطط بني صهيون ومعهم الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب المنافقة والمتآمرين والمطبعين، فقد أفشلت المقاومة حملة التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي اقترفها الجيش الأكثر همجية في العالم في حق شعب أعزل عبر القصف الكبير المكثف على كل شبر من غزة، في حرب استمرت قرابة خمسة عشر شهرا وفشلوا في اقتلاع المقاومة وفرض الهيمنة على القطاع واسترداد الأسرى الصهاينة بالقوة، رغم كل أنواع الحرمان من الحياة من حصار وتقتيل وترحيل وتجويع وتعطيش، وقد جاءت هذه الحرب بعد حصار جائرامتد قرابة عقدين وأمعن في تنفيذه العدو الصهيوني والجار العربي..

إذا كان أهل غزة قد حصدوا نصرا سبق أن زرعوه بصبرهم وسقوه بدماء شهدائهم وجرحاهم، فما الذي قدمه أكثر العرب والمسلمين للقضية الفلسطينية ولدعم إخوانهم إبان هذه الحرب الطويلة الظالمة، أما وقد صمنا وصمتنا عن الاحتجاج والمناصرة حتى صرنا بُكما، وأغمضنا عيوننا عن التقتيل والمذابح حتى أصبحنا عُميانا، ولم نسمع الإستغاثات الصادرة عن النساء الثكالى والأرامل والأطفال اليتامى والجرحى المعطوبين حتى عدنا صُما، ولم نساهم بأموالنا لرفع المعاناة والجوع عن إخواننا وكأن الحواس قد تبلدت من فرْط مسلسل المجازراليومية في قطاع غزة..خضعنا وأصابنا ذل وخنوع وعجز بعدما تحول أغلبنا إلى مجرد متفرجين على مشهد التقتيل وحرب الإبادة.

حقا انتصرت غزة لأن الطرف الأضعف إذا لم ينهزم ويستسلم ويرفع الراية البيضاء فقد انتصر، والطرف الأقوى إذا لم يهزم خصمه فلم يُحقق نصرا، يمكن أن يخسر صاحب الحق جولة ولكنه لم يخسر الحرب وفي نفس الوقت فاز بالبقاء إلى حين توفر شروط جولة جديدة، و مخزون وعدد المقاتلين ارتفع بشكل كبيراستعدادا لجولة أخرى من أجل التحرير الشامل للأرض المحتلة، فبمقدار تزايد العنف الصهيوني تتزايد المقاومة وينخرط شباب كثر وجدد في المقاومة والحالة هاته أن كل شاب في غزة قد فقد الكثير من ذويه وأحبته، بعدما تجاوز عدد الذين ارتقوا شهداء 47000 أغلبهم نساء وأطفال دون احتساب آلاف الشهداء المحتجزين تحت الركام وحجارة المباني، إضافة إلى أضعاف هذا العدد من الجرحى ومعطوبي الحرب.

من الملفت للإنتباه فرح واحتفال العرب والمسلمين والشرفاء المساندين للقضية الفلسطينية عبر العالم بهذا النصر الرباني المؤزر لغزة، لأنه نصر حققه مقاومون شجعان بعزيمة فولاذية وأسلحة بسيطة على عدوان تزعمه بني صهيون وشركاؤهم حيث يملكون كل أنواع أسلحة الدمار الشامل، فهل فرح الناس لاتفاقيات مع العدو الصهيوني منها اتفاقية مصر في كامب ديفد بأمريكا سنة 1978 أو اتفاق السلطة “الفلسطينية” في أوسلو بالنرويج سنة1993 أو اتفاق الأردن في وادي عربة سنة 1994، لم تكن هناك احتفالات بهذه الاتفاقيات، بل خيبة وإحساس بالذل والهزيمة لأنها أعطت لبني صهيون السلام وسمحت لهم في الأرض ولم تأخذ شيئا في المقابل، بل استمر الكيان الغاصب في قضم الأراضي وبناء المستوطنات لقطعان بني صهيون.

انتصرت غزة وقد قدمت قوافل من الشهداء من الأطفال الأبرياء ومن النساء ومن خيرة القادة الشهداء: إسماعيل هنية الذي اغتيل واستشهد في طهران ويحيى السنوار الذي استشهد في أرض المعركة مقبلا غير مدبر ولا مستخفٍ وصالح العاروري الذي اغتيل في بيروت وغيرهم من قادة المقاومة..

انتصر المحمدون: الداهية محمد السنوار مهندس الأنفاق ومحمد الضيف القائد العام لكتائب القسام ومحمد شبانة قائد منطقة رفح ورجل الظل مروان عيسى و القائد الفصيح أبو عبيدة وغيرهم من القادة المعروفين أو الذين يقاومون في الظل وفي صمت.

انتصرت المقاومة بمختلف تنظيماتها متوكلة على الله موقنة في معيته ونصره وهو الذي يقول في كتابه المجيد (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) النحل/128، انتصرت بإيمانها بحقها وتشبتها بأرض الآباء والأجداد، أما المحتل فإلى زوال مهما طال الزمن.

والآن وقد تم إجبار العدو على وقف العدوان يمكن القيام بتقييم أولي لهذه الحرب الظالمة المدمرة، والتي خطط لها بنو صهيون سواء حدث طوفان الأقصى أو لم يحدث، إذ لم يكن الطوفان إلا استباقا لنوايا الاحتلال من أجل امتلاك أوراق للضغط عليه أثناء التفاوض، فقد جعل زعيم بني صهيون نتن ياهو وحلفاؤه الغربيون لحربهم على غزة أهدافا خفية وأخرى معلنة ، أما الأهداف الخفية المخطط لها فقد كان الهدف المركزي للعدوان هو التطهير العرقي وإفراغ القطاع من سكانه واحتلاله بالكامل وبناء مستوطنات ودفع مليوني فلسطيني ونصف المليون نحو سيناء المصرية، كما يعلنون اليوم عن نواياهم في ضم الضفة الغربية بشكل نهائي عبر تطهيرعرقي وترحيل فلسطينيي أهل الضفة إلى الأردن وطمس أي عنوان اسمه “القضية الفلسطينية”. أما أهداف الحرب المعلنة التي كررها نتن ياهو خلال خمسة عشر شهرا فهي : القضاء على المقاومة ونزع سلاحها و تحرير “الرهائن” بالقوة والاحتلال الكامل لقطاع غزة وإقامة المستوطنات شمال القطاع وتهجير معظم وأغلب السكان الفلسطينيين إلى الجنوب بمحاذاة الحدود المصرية.

وتخلل هذه المراحل مفاوضات طويلة ماراطونية لوقف الحرب بمبادرة من عدة دول كان فيها وفد المقاومة حازما وصارما لحفظ حقوق الشعب الفلسطيني في غزة، ودقق في كل التفاصيل لتجنب أي تفسير ماكر للطرف الصهيوني حيث وضع شروطا لا يمكن التنازل عنها من أجل إطلاق سراح الأسرى الصهاينة ووقف الحرب، وقد حددت هذه الشروط في :

– عودة النازحين الفلسطينيين إلى بيوتهم ومن الجنوب إلى شمال القطاع

– الانسحاب الكامل والشامل من قطاع غزة

– الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين خاصة القدامى وأصحاب المؤبدات

– وقف إطلاق النار النهائي ووقف العدوان

– الإنسحاب من محور فيلاديلفيا (الحدود بين مصر وغزة)

لكن هذه المفاوضات ما إن يقترب المفاوضون من الاتفاق على مضامينها حتى يفجرها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بشرط معجز جديد يؤدي إلى نسف ما اتفق بشأنه، فما أشبه الأمس باليوم حيث يعيد التاريخ نفسه مما يذكرنا بمفاوضات سيدنا موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل لما طلب منهم أن يذبحوا بقرة؛ أي بقرة، لكنهم دخلوا في اشتراطات لم يطلبها منهم، هل هي فارض أم بكر أو عوان بين ذلك، وعن لونها وشكلها، وكلما كثر الشرط قل المشروط وصعب تحصيله، وتلك هي عقلية بني صهيون ومنطقهم..

إن المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يحقق المصالح الامريكية والغربية الامبريالية في المنطقة العربية،هو الذي جعل أمريكا تشارك في الحرب على غزة بأساطيلها البحرية وإمدادها لبني صهيون بملايير الدولارات ومئات الأطنان من أسلحة الضمار الشامل حتى أحالت كل غزة إلى أطلال ورماد، لكنه اصطدم بثبات أهل غزة واستماتتهم في الدفاع عن أرضهم، إلى أن أيقن الزعماء الأمريكان أن المقاومة بزعامة حماس عزيمة يصعب القضاء عليها والنيل منها وأنه يستحيل قهر شعب الجبارين وأن الشعب الفلسطيني من أقوى شعوب العالم تمسكا بأرضه ودفاعا عنها فأمرت بالوقف السريع للحرب وأعطى رئيسها المنتخب مهلة تنقضي بيوم تسلمه للسلطة في العشرين من يناير 2025، فالرئيس الجديد للبيت الأبيض له أولويات دسمة تتجاوز اهتمامه بقطاع غزة حيث أعلن عن نيته ضم كندا التي تتجاوز مساحتها مساحة بلاده وجزيرة جرينلاند الكبرى وهما الغنيتين بمواردهما المختلفة.

وهكذا تم تسريع المفاوضات إلى أن تم التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب، واستطاعت المقاومة أن تبقى وفية لجميع الشروط التي أعلنها منذ بداية الحرب قائد حماس الشهيد إسماعيل هنية ومنها تحرير المئات من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ومنهم أكثر من 300 أسيرمن أصحاب المؤبدات والأسرى القدامى، في المقابل لم يستطع العدو الصهيوني الوصول إلى أي من أهداف عدوانه على غزة خلال أطول حرب مع طرف عربي، بل أصيب جيشه بانهيار عسكري ميداني أمام ضربات المقاومة التي أبدعت أشكالا قتالية جديدة واستدرجت جيش الاحتلال إلى حرب استنزاف، مما يشكل أول هزيمة للكيان الغاصب منذ احتلال أرض فلسطين، إلى جانب تصدع حكومته في انتظار محاسبتها على هذا الفشل الذي يضاف إلى فشل السابع من أكتوبر 2023، أما الخسائر البشرية الثقيلة في جنود العدو فيجري التكتم عليها، في الوقت الذي وصلت كلفة الحرب الأولية الى 80 مليار دولار، وارتفاع المديونية بشكل كبير، يضاف إلى ذلك انهيار قطاع السياحة والبناء والزراعة وتراجع كبير في قطاع التكنولوجيا الذي يذر مداخيل كبيرة على الخزينة الصهيونية، وهجرة عكسية للمستوطنين اليهود عائدين إلى دول المنشأ في أمريكا وأوربا، و عزلة دولة الاحتلال على المستوى الدولي حيث أدركت شعوب العالم حقيقة الكيان الغاصب وهمجيته وحقده الأسود، وصار هناك إجماع على تفكيك هذا الكيان الغريب الذي صار عبئا على البشرية و ازدادت المطالبة باستقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس الموحدة، لينعم العالم بالسلم بين شعوبه.

فهنيئا لغزة وهنيئا للمقاومين الأبرار وهنيئا للشعب الفلسطيني الصابر المجاهد، وهنيئا للمرأة الفلسطينية وتحية إجلال وإكبار لها على صبرها وثباتها، وهنيئا لكل من قدم الدعم اللازم لغزة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى