رأي

رأيي في التعديلات المقترحة على قانون مدونة الأسرة (14) : موضوع التعدد وإساءة الاستدلال 

د. أحمد كافي

 جمعني بها لقاء حول مدونة الأسرة، ودلف الحديث بنا إلى موضوع التعدد، ورأت أني أرفض منعه أو التحقير من شأنه، خاصة وأنه ورد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته وتاريخ المسلمين. فانبرت تصيح في وجهي، وهي تقول: إنه ممنوع شرعا، بدليل قوله تعالى:” ولن تسطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”، وهذا تعليق للحكم الشرعي بما هو مستحيل، فدل ذلك على أنه محظور لاستحالة تحقيق العدل فيه، والتعليق بالمستحيل مستحيل.

العدل مع الواحدة:

ــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت لها: هل البيوتات في الكون كله مع الواحدة تبنى على العدل؟ متى رأيت بيتا واحدا يبنى على العدل حتى تؤكدي فطير رأيك. إن البيوتات تبنى على المعروف لا على العدل:” ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف“[البقرة:228]، ” فإمساك بمعروف“[البقرة:229]، فأمسكوهن بمعروف“[البقرة:231/الطلاق:2]، ” إذا تراضوا بينهم بالمعروف“[البقرة:232]، ” متاعا بالمعروف“[البقرة:236]، ” وعاشروهن بالمعروف“[النساء:19]

والإصرار على العدل هو تحويل لمؤسسة الزواج إلى شركة للمحاسبة والمراجعة والعتاب والمفارقة. فإذا كان الرجل والمرأة مع بعضهم البعض يتعايشون بالمكارمة والمسامحة، ويستمر بيتهم بهيجا في ضوء ذلك، فإن العدل الذي تبحثين عنه هو المفسد للأسر. وإذا أرادت امرأة العدل، فساعتها سيكون طريقها إليه هو الحكمان أو المحكمة.

والقرآن الكريم عندما وضع الأحكام العادلة، فليس للتأكيد على أنها هي الواجب حضورها في حياة الأسر. وإنما الاجتهاد في الترقي إليها بالتقريب والتسديد. ووضعها للمكلفين عند المنازعة أن تكون بين يدي القضاة للحكم بها لا أن تكون نهجا يتبع في الأسر، فهذا من تكليف الناس ما لا يطيقون.

ليست آية من القرآن الكريم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأريد أن أحيطك علما أن ما استدللت به، من القول المشهور على الألسنة:” ولن تسطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”، ليست آية قرآنية. فسقط استدلالك بما تعتقدينه قرآنا، وهو ليس كما تظنين.

ثم وجدت نفسها لأول مرة تفاجأ بأنها تستدل بما لا حق لها في الاستدلالبه، فاستخرجت محمولها تستفسر محركات البحث، فقالت لي: لا تفتر على دين الله تعالى وكتابه، وليكن في علمك ـ وأنت يا للأسف أستاذ الدراسات الإسلامية ـ أن قوله تعالى:” ولن تسطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”، هي الآية 129 من سورة النساء، فأضف إلى معلوماتك، وانقص من مجهولاتك.

مقالة المستشرقين والكنسيين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت في التوضيح: إني فار بأشد العدو من الافتراء على الله تعالى، وأريد أن أوضح أن هذه المقالة في موضوع التعدد والاستدلال بقوله تعالى:” ولن تسطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”، هي مقالة المستشرقين وأصحاب الكنائس منذ الغزوة الاستعمارية لبلاد المسلمين. وقد رد أهل العلم على شبهاتهم في موضوع التعدد، والتي منها شبهة ما تمسكت به من الاستدلال.

واعتقدنا أننا تخلصنا من هذه الشبهة التي قام بفريها علماء الإسلام من كل البلاد بكل صارم من صحيح القول منقولا ومعقولا. غير أن العلمانيين في البلاد الإسلامية قد تلقفوا عنهم بعد سنين عددا من إلقاء المستشرقين وأرباب الكنيسة  إياها في سوق الشبهات.

ثم إنه ـ ووا أسفاه ـ قد تسللت إلى قلوب بعض المسلمين من غير تمحيص وسداد، لملاقاتها هوى في النفوس مكين، وقديما قالوا محذرين: ولقد قارنت الأهواء الآراء.

فهذا سند هذه الشبهة التي وجدتها طريقها إليك، وهو سند عند أهل الصناعة هالك لا يعول عليه.

المهم أنت جاهل بالآية من القرآن الكريم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هكذا اختارت الرد علي في إنكاري عليها ما استدلت به وقد أخطأت في نظرها. وقلت لها: لا بأس، رويدك يا ابنتي فإني لم أتم حديثي بعد، ولم أتراجع عن سابق قولي الذي سوف أعود إليه، والمصحف بين أيدينا حكما.

إني عرجت على مصدر الشبهة، وأنها من طريق أهل الضلالة والمغضوب عليهم وصلتكم، الذين يلتمسون المعايب في كتاب الله تعالى، ويريدون إشاعة التناقض فيه للتزهيد. وربنا عز وجل تحداهم، فقال عز من قائل:” الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير”[الملك:3 ـ 4]، ” الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا”[الكهف:1]، الم ذلك الكتاب لا ريب فيه”[البقرة:1 ـ 2]، ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا”[النساء:82].

فالخلق مأمون من العيب، والأمر مأمون من الريب والشكوك والتناقض.

لي أعناق النصوص:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن القرآن الكريم قد تحدث كثيرا عن تحريف من سبقنا لكتبهم، وقد اتخذ التحريف صيغا كثيرة، منها:

* تحريف التبديل والتغيير:

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

ويكون هذا بحذف بعض ما نزل، وزيادة من عندهم لم تنزل. قال تعالى﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم﴾[البقرة:58 ـ 59]، وقوله تعالى:﴿ فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم﴾[الأعراف:161 ـ 162].

* تحريف المعاني الشرعية للوحي:

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

وذلك باختراع معاني فاسدة لكلمات الوحي الصحيحة، ويتخذون هذا التحريف سبيلا عندما يتعذر لهم تحريف التبديل، وذلك حين تعذر عليهم تحريف تبديل الكلمات، فينتقلون لتحريف ما بقي من الكلمات كما هي، بتحريف معناها ومضمونها. قال تعالى: ﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه﴾[النساء:46]، ﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه﴾[المائدة:14]. ﴿ ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه﴾[المائدة:41].

ومن أهل العلم من يفرق بين التحريفين: ﴿ عن مواضعه﴾، ﴿ من بعد مواضعه﴾، بفوارق مذكورة في كتب التفسير واللغة.

* تحريف الإكراه والقسوة في التحريف:

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

وهو المسمى ب: لي أعناق النصوص الشرعية، قال تعالى:﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾[آل عمران:78].

إنه تحريف اللي:﴿ يلوون ألسنتهم بالكتاب ﴾.

والمهم من هذا كله، أن التحريف يجعل ما ذكر أنه من الكتاب، ليس من الكتاب بسبب ما وقع عليه من أذى التحريفات البشرية في المعاني أو في الألفاظ:﴿ لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب﴾.

ويل للمصلين:

ـــــــــــــــــــــــ

ثم قلت لها، إذا قال شخص: إن الله تعالى يقول:﴿  فويل للمصلين﴾، فهل توافقينه على قوله، ونسبة ما ذكره إلى رب العالمين؟

لم تتردد في الرد علي: إن هذا تحريف لا يقبل، لأن الويل لم يتوجه من الله تعالى للمصلين، وإنما الآية هي قوله تعالى:﴿ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾[الماعون:4 ـ 5]، فلا يكون ويل للمصلين قرآنا إلا موصولا بما بعده.

صدقت:

ــــــــــــ

وصدقت قولها، وأكدت عليه بأن العلماء قرروا أن فصل آي الكتاب وتقطيعه محرم وممنوع لما يحدثه من تحريف المعاني الشرعية. وبه وجدناهم يقررون أن القرآن الكريم لا يكون إلا بمعرفة الوقوف. وأن غياب هذا العلم هو الذي حذرت الشريعة منه، وقال صلى الله عليه وسلم للذي قطع القول فأفسد معانيه: بئس خطيب القوم أنت“( ).

البيان:

ــــــــــــ

وعندما نعود لقوله تعالى:” ولن تسطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”، فهذا نفي للعدل بين النساء حسب منطوق ما وقفت عنده، وأنه بسبب غيبته وجب التوقف عن التعدد فرارا من الظلم الذي حرمه الله تعالى على عباده. أو بتعبيرك: إن التعدد مستحيل شرعا، لتعلقه بالمستحيل واقعا.

لكن عندما نأتي بالآية على تمامها، كما قال ربنا عز وجل:” ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء لول حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة”النساء:129 ].

فهذا تأكيد على إجازة القرآن الكريم للتعدد بشرط ترك الميل الكلي.

وفرق كبير بين ما تعتقدينه قرآنا يحرم التعدد على الناس باقتطاع الآية، وبين إتمامها الذي يؤكد على إجازة التعدد بشرط عدم الميل الكلي إلى واحدة من النساء. فالأول تحريف للقرآن، والثاني إتيان به على وجهه.

العدل المقصود:

ــــــــــــــــــــــــــ

ولم أرد أن أعرج بك عند معنى العدل عند العلماء، وأنه لا يتعلق بالأشياء من مطعم وملبس وكساء وغيرها من متع الحياة. وأن المرأة في حياتها ـ كما الرجل ـ تجد في نفسها ميلا لأحد أبنائها أكثر من الآخرين. فهل تلام على ميلها القلبي، وعاطفتها تجاه أحدهم؟

أما الإسلام فلا يلومك على ما وقر في قلبك، لكن يحذرك من الميل الكلي الذي يكون منه غمط حقوق باقي الأبناء.

الأصل في الزواج:

ــــــــــــــــــــــــــــــ

ومما يستحسن ذكره أن فقهاء الإسلام وفقيهاته أيضا، لم يكن البحث العلمي عندهم يمارس تحت الإرهاب والتخويف، ولم يجدوا الغضاضة في التساؤل عن الأصل في الزواج: أهو الواحدة أم التعدد.

وكان من قول كثيرين: إن الأصل في الزواج هو التعدد، لأن الله تعالى بدأ به إذ قال:” فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع”[النساء:3]. والنبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسير آيات القرآن الكريم: نبدأ بما بدأ الله به“( )، وبه قال الفقهاء: ما بدأ الله به ذكرا، نبدأ به عملا.

وإن الواحدة بحسب منطوق الآية مقيدة بانعدام شرط التعدد:” فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم”[النساء:3]، ومفهوم المخالفة في الشرط(فإن خفتم) أن انعدام الخوف لا يستوجب الامتناع عن التعدد. ومن كان خائفا، فلا يفرض خوفه على من ليس بخائف.

صحيح أن التعدد لا يشكل ظاهرة في المجتمع، وأن نسبته التي نزلت عن الصفر لا تؤرق الرجال ولا النساء، ولكن الحقائق الشرعية لا يجوز التطويحبها إن لم يكن جيلنا معنيا بها.

(يتبع إن شاء الله تعالى)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى