
إن مما شاع بين الناس في أيامنا هاته كما السنة الماضية، وجوب التخلي عن فريضة ذبح الأضحية بحجة غلاء الأضاحي وعدم القدرة على شرائها. وإن كان لهذه الدعوى وجه صواب فهو خاص بالفقير والمعتر والمعدوم المغلوب على أمره، في زمن حكومة لم ير منها المواطن إلا الزيادة في كل شيء منذ تنصيبها، وضرب القدرة الشرائية واستفحال البطالة وتسريح العمال وطردهم من سوق الشغل.. وعوض الذهاب للاحتجاج على التدبير غير المحكم لمن تولى أمر الأمة وقام بتسيير شؤونها، بدأ البعض يخوض معركة دونكشوتية وغير حقيقية، مما يخفي الغابة. إن سيران دعوى ضرورة الاستغناء عن عيد الأضحى بما فيه من فرائض وسنن يدفعنا للمطالبة بإسقاط صلاة العيد، والتي لن يصبح لها معنى بدون ذبح للأضحية، والتي هي من شعائر الله قال تعالى..” ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ” الحج(32). وفي الباب قال المفسرون: يقول عز وجل وجب هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور،حنفاء لله، وتعظيم شعائر الله، وهو استحسان البُدن واستسمانها وأداء مناسك الحجّ على ما أمر الله جلّ ثناؤه، من تقوى قلوبكم. وإن في الاستعظام، استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها. والناظر في أيام الله وتعظيم الشعائر واستحضار لفعل الرسول عليه السلام ومن معه من الصحابة يتجلى له انتشار الدين بالتوحيد والتلبية والإنابة لله، ورغبة الحاج وغيره من المكلفين في الطهارة ومحو الذنوب، وإزالة الدنس والخبائث، وسقوط الوثنية والذبح لغير الله.
فالذَّبحَ لله تعالى والتقَرُّبَ إليه بالقَرابينِ؛ من أعظَمِ العباداتِ، وأجَلِّ الطاعاتِ، وقد قَرَنَ اللهُ عزَّ وجلَّ الذَّبحَ بالصَّلاةِ في عِدَّةِ مواضِعَ مِن كتابِه العظيمِ؛ لبيانِ عِظَمِه وكَبيرِ شَأنِه وعُلُوِّ مَنزِلَتِه .
وإن مِن حِكَمِ مشروعيَّةِ الأضْحِيَّة ومقاصدها :
1- شُكْرُ اللهِ تعالى على نِعمةِ الحياةِ.
2- إحياءُ سُنَّةِ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين أمَرَه الله عزَّ اسمُه بذَبحِ الفِداءِ عن ولَدِه إسماعيلَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ في يومِ النَّحرِ، وأن يتذكَّرَ المؤمِنُ أنَّ صَبرَ إبراهيمَ وإسماعيلَ- عليهما السَّلامُ- وإيثارَهما طاعةَ اللهِ ومحَبَّتَه على محبَّةِ النَّفْسِ والولدِ- كانا سبَبَ الفِداءِ ورَفْعِ البلاءِ، فإذا تذَكَّرَ المؤمِنُ ذلك اقتدى بهما في الصَّبرِ على طاعةِ الله، وتقديمِ محبَّتَه عزَّ وجلَّ على هوى النَّفْسِ وشَهْوَتِها. وإذا ثقل عليه امر من الطاعات كالقيام لصلاة الفجر مثلا فليقل أين هذا من هم إبراهيم ذبح ابنه اسماعيل طاعة لله، وهكذا في الزكاة ومختلف الطاعات، فجوهر الدين بعد التوحيد الاستسلام لله فيما أمر ونهى والتضحية لإعلاء كلمة الله على هوى النفس وهوى الخلق.
3- أنَّ في ذلك وسيلةٌ للتَّوسِعةِ على النَّفْسِ وأهلِ البَيتِ، وإكرامِ الجارِ والضَّيفِ، والتصَدُّقِ على الفقيرِ، وهذه كلُّها مظاهِرُ للفَرَحِ والسُّرورِ بما أنعَمَ اللهُ به على الإنسانِ، وهذا تحدُّثٌ بنعمةِ الله تعالى، كما قال عزَّ وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[الضحى: 11].
4- أنَّ في الإراقةِ مبالغةً في تصديقِ ما أخبَرَ به اللهُ عزَّ وجلَّ؛ مِن أنَّه خَلَقَ الأنعامَ لنَفْعِ الإنسانِ، وأَذِنَ في ذَبْحِها ونَحْرِها؛ لتكونَ طعامًا له.
فمجمل مقاصد الأضحية:التمتع بنعم الله تعالى وشكره عليها، فيأكل العبد منها ويوسع على عياله، ومقصد نيل الأجر والثواب بالذبح لله تعالى والتصدق بما تيسر منها، ثم التودد بها الى الأقرباء والأحباب والجيران بالضيافة والإهداء، وتستفاد هذه المقاصد من عموم قوله تعالى:قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ,والنسك الذبح، وقوله تعالى:”لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ”
وقوله سبحانه تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ)،
وقوله تعالى : ( فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . فالقانع السائل المتذلل، والمعتر المتعرض للعطية بدون سؤال، وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ” كلوا وأطعموا وادخروا ” . رواه البخاري والإطعام يشمل الهدية للأغنياء والصدقة على الفقراء، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ” كلوا وادخروا وتصدقوا “. رواه مسلم.
إن ما نعيشه من غلاء وجشع يحتاج منا إلى التوقف ومحاسبة النفس والابتعاد عن المنكرات والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإنابة لله، والمطالبة بالعدالة الأجرية وحسن توزيع الثروات، والتأسيس لديمقراطية تحفظ حق المستضعفين، وتعيد للمواطن كرامتهم، كما يجب إحياء فريضة الزكاة وإنشاء صندوق لها كي توزع على الفقراء والمحتاجين والمعدومين، وتطوير التعليم وربطه بسوق الشغل، وتوفير فرص للشغل تدمج القادرين وتشجع على الاستثمار. لا بد للحكومة ان تقوم بواجبها وتقطع مع ” الشناقة” من ” أصحاب الشكارة” ممن تقدم لهم الدعم كي يخففوا عن المحتاجين، ومعلوم أنهم ” كيزيدوا الشحمة في ظهر المعلوف” وعوض أن تحدث الرؤوس من الأغنام المستوردة فرجا ومخرجا للمحتاجين فإنها تساهم في رفع الأسعار، وتغني الأغنياء وتفقر الفقراء. وقد دعا احد نواب برلمان موريتانيا عن حزب تواصل الموريتاني إل استغلال الشاحنات المغربية التي تعود فارغة من الأراضي الموريتانية بعد نقل الخضروات لتصدير الأغنام، مؤكدا أن هذه الخطوة ستعزز التبادل التجاري بين البلدين وتسهم في تحسين الاقتصاد الوطني. فبلاد موريتانيا تمتلك ثروة حيوانية ضخمة تقدر بحوالي 30 مليون رأس من الماشية، مما يجعلها في موقع مميز لتلبية احتياجات السوق المغربية، خاصة مع اقتراب عيد الأضحى. وإن أسعار الأضاحي لا تتجاوز 1900 درهم، وتمثل خيارا مناسبا للمستهلك المغربي. إن دعوى الاستغناء عن الأضحية باطلة من حيث تعطيل فريضة إسلامية يقتدي فيها المسلمون بنبيهم عليه الصلاة والسلام، واتباع له. وكل إنابة وصلح مع خالقنا يكون من شأنه إصلاح أحوالنا.