
من حرب المواقع الى حرب الرمزيات
إن المتتبع للحرب الظالمة التي شنها جيش بني صهيون على غزة الأبية غذاة طوفان الأقصى، ومآلاتها الآنية والمستقبلية على أرض فلسطين، وعلى المنطقة العربية وما يسمى “الشرق الأوسط”، لا تخطئ عينه ما استطاعت أن تحققه المقاومة الفلسطينية من انتصارات مختلفة في هذه الحرب الأطول، بين الكيان الصهيوني الهجين، الذي دعمته العديد من الدول الغربية بالمال والسلاح، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبين شباب غزة الذين كان سندهم الوحيد إيمانهم بقضيتهم وصبر وقوة عزيمة شعب الجبارين الذي وقف صخرة أمام مخططات بني صهيون التي باءت كلها بالفشل الذريع، سواء تعلق الأمر بالإبادة الجماعية أو الترحيل القسري لسكان غزة خارج فلسطين، أواسترداد الأسرى الإسرائيليين بالقوة.
إن انتصار غزة لا ينحصر فقط، في كون العدو الصهيوني لم يستطع إنجاز مخططاته المشؤومة رغم الدمار الكبير الذي خلفته حربه الهمجية، وعدد الشهداء والجرحى والمعطوبين والمفقودين، بل تعدى انتصار المقاومة إلى تركيع العدو الصهيوني ليستجيب لجميع الشروط التي حددها قادة المقاومة منذ بداية الحرب وعلى رأسهم القائد الشهيد إسماعيل هنية و القائد البطل الشهيد يحيى السنوار، إلى أن جاء اتفاق الهدنة بتاريخ 18 يناير 2025 ليعلن الانتصار التاريخي للمقاومة على العدو الصهيوني، هذا الانتصار الذي كان محط اجماع جميع المتتبعين لهذه الحرب، بمن فيهم وزراء ومسؤولين ومحللين صهاينة، وكان من بين مخلفاته الآنية بداية تفكك حكومة بني صهيون عبر استقالة بعض الوزراء و رئيس أركان الجيش النازي وقادة وحدات أمنية وعسكرية.
ومع سريان تنفيذ الاتفاق، بدأت تتكشف العديد من المعطيات، التي تظهر بما لا يدع مجالا للشك قوة ومتانة قوى المقاومة، بمختلف تشكيلاتها، تتقدمها كتائب القسام، كما تجلى صبر سكان غزة والتحامهم بأبنائهم من شباب المقاومة، وهي مؤشرات لها دلالات ورمزيات خاصة، تنضاف إلى الرمزية التاريخية للإخفاق الأمني والاستخباراتي والعسكري للسابع من أكتوبر2023، وترخي بظلالها على هذا الصراع التاريخي بين الفلسطينيين أصحاب الأرض وبين قطعان بني صهيون اللقطاء القادمين من دول مختلفة، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ الصراع حيث أرغمت المقاومة أنف الاحتلال وحكومته الأكثر تطرفا.
إنه من الصعب حصر العدد الكبير لهذه الدلالات والرمزيات التي تتولد كل يوم وتتجدد وتتنوع مع استمرار تنفيذ بنود اتفاق الهدنة، أثارت سعار حكومة بني صهيون، وتشكل زلزالا متجددا مسترسلا لكيان العدو وحسبنا ذكر بعض ما استنبطناه في هذه المرحلة من الرمزيات التالية:
– رمزية انتشار قوات المقاومة وقوات الشرطة الفلسطينية بغزة بالمآت، بل بالآلاف في كل أرجاء قطاع غزة، في التوقيت نفسه، وفور الإعلان عن وقف العمليات القتالية، من أجل تثبيت الأمن وضبط الأوضاع، مما يدل على قدرة حماس العالية على إعادة بناء ذاتها كقوة سياسية، تسيطر على الوضع في غزة، رغم ما خلفته الحرب من دمار، ورغم فقدان العديد من القادة الكبار، المدنيين والعسكريين التاريخيين المميزين، وعلى القدرة على تدبيرالصدمات واستيعابها رغم قوتها، وهو ما كان له أثر نفسي كبيرعلى العدو الصهيوني.
– رمزية اللباس العسكري الأخضر الأنيق لرجال المقاومة، وسياراتهم البيضاء رباعية الدفع، مما يطرح العديد من الأسئلة حول مكان إخفائها، طيلة الحرب والعديد من الأمور اللوجيستية المتعلقة بها.
– رمزية منصة توقيع وثائق تبادل الأسرى الجميلة أثناء عملية التبادل الثانية، التي يعلوها علم دولة فلسطين، ووقوف مقاتلي المقاومة بشكل منظم مدروس وهم يحملون أسلحة رشاشة أوتوماتيكية، كانت ملكا للجنود الصهاينة، مما يثبت قدرة حماس العالية على التحكم في المشهد.
– رمزية إظهارشعارات الفرق الصهيونية الأربع، التي لم تستطع إنجاز أهدافها، علما أنها كانت تضم أشد القوات العسكرية الصهيونية المشكلة من لواء غولاني والقوات الخاصة ونخبة الجيش ولواء جفعاتي والشاباك وفيلق سيغيت الاستخباراتي وغيرها من الألوية، وقد كتبت هذه الشعارات باللغة العبرية مع ما لذلك من دلالات عميقة.
– رمزية لباس الأسيرات الإسرائيليات، سواء المدنيات في التبادل الأول أو العسكريات في التبادل الثاني، وحالتهن الصحية الجيدة، مقارنة مع الحالة المزرية للأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم.
– رمزية هدايا القسام للأسيرات التي تضم صور تذكارية عن الأسر وخريطة غزة وقلادات قسامية وشهادة تقدير ممهورة بختم القسام، وهو دليل إحسان ولطف وحسن معاملة، استمرإلى اللحظات الأخيرة، مما يشي بإبداع المقاومة.
– رمزية التنظيم وحسن التدبير البروتوكولي أثناء تسليم الأسيرات إلى منظمة الصليب الأحمر، مما أدهش موظفي هاته المنظمة.
– رمزية صعود الأسيرات الأربع المجندات لمنصة التسليم وهن يرتدين لباسا عسكريا، يتبادلن التحايا مع الجماهير الغزية الحاضرة وهم في غاية السعادة والانشراح.
– رمزية تحدث الأسيرات باللغة العربية، وشكرهم لرجال القسام، وكلامهم عن المعاملة الطيبة من أكل وشرب ولباس وحفاظهم عليهن من قصف الجيش الصهيوني.
– رمزية إطلاق بعض الأسرى خلال التبادل الثالث، من تحت الركام خاصة أمام منزل البطل القائد الشهيد يحيى السنوار، الذي يشكل كابوسا مزعجا للإسرائيليين حيا وشهيدا، مما يعطي مؤشرا لافتا أن المقاومة مستمرة ولن يوقفها استشهاد القادة بداية من الرئيس المؤسس الشيخ أحمد ياسين، كونها قضية شعب بأكمله وقضية أمة عربية وإسلامية يستحيل إنهاؤها وإقبارها دون تحرير آخر شبر من فلسطين وطرد المحتل منه.
– رمزية التعلق بالأرض والعودة التاريخية لمئات الآلاف من الفلسطينيين رجالا وركبانا، عبر كل الوسائل المتاحة، في مشهد إنساني مؤثر ( أكثر من نصف مليون غزي) من جنوب القطاع إلى شماله، عبر زحف بشري مهيب هادر يحطم أوهام الاحتلال الفاشي، بعد تحرير الأرض التي سلبها العدو لمدة خمسة عشر شهرا، وأعدم فيها كل أشكال الحياة.
– رمزية صدمة الإسرائيليين من رؤية العودة الجماعية للمرحلين الفلسطينيين رغم هدم البنية التحتية للقطاع، ولأغلب المربعات السكنية.
– رمزية صدمة الاسرائليين من فرحة الغزيين، وهم يعودون الى بيوتهم رغم الدمار ورائحة الموت التي زرعها جيش الاحتلال الهمجي في قرى ومدن القطاع.
– رمزية بكاء جنود بني صهيون الذين ذرفوا الدموع وهم يغادرون محور نيتساريم، يصرحون بأن كل ما فعلوه من قتل وتدمير ذهب أدراج الرياح.
– رمزية تحطيم خطة الجينرالات القاضية بتفريغ شمال غزة، واقتطاعه لبناء مستوطنات صهيونية وأماكن سياحية عالية الجودة، وانتهاء فكرة التهجير في المخيال الصهيوني بمسيرة الرجوع التاريخية، وإعلان فشل مخططات بني صهيون ردا على كل الحالمين بتهجير الشعب الفلسطيني وإقبار القضية الفلسطينية.
– رمزية رجوع سكان شمال القطاع في جانب حرمان العدو من التوغل مجددا في القطاع، وترحيل أهله بعدما علمتهم الحرب أن لا مكان آمن يمكن أن يكون في منأى عن اعتداءات الجيش الصهيوني، إثر قصف خيام نازحي الشمال أثناء تنقلاتهم من الشمال الى الوسط ثم الى جنوب القطاع.
– رمزية إعداد 50 مركزا للإيواء، و 30 مخيما للنازحين، وحفر آبار لتوفير الماء الشروب في الأيام الأولى للهدنة كمرحلة أولى في انتظار دخول مساعدات إضافية، مما يدل على التنظيم والإعداد المسبق.
– رمزية إخفاء عدد الأسرى الصهاينة الأحياء، خاصة ممن يمثلون أهمية عسكرية من أجل رفع أعداد الأسرى الفلسطينيين الذين سيفرج عنهم.
و غير ذلك من الدلالات والرمزيات لكل الأحداث والوقائع منذ طوفان الأقصى، ولعل رجوع النازحين إلى ركام بيوتهم في شمال القطاع، وحق العودة و رسوخها في كيان الغزيين تؤكد قوة امن أجللعامل البشري في حسم الصراع مع العدو، وليس ترهيبه بالقنابل والصواريخ الأمريكية.
كذلك يرجع الفضل لوفد حماس المفاوض، الذي ثبَّتَ العديد من البنود في الاتفاق، منها الانسحاب من محور نيتساريم الإستراتيجي، الذي قسم القطاع، مما يشكل انتكاسة كبيرة في خطة العدو، إذ كلما تقدم تطبيق اتفاق الهدنة، كلما زاد تكبيل نتن ياهو بعدم الرجوع الى الحرب، الشيء الذي يدل على حرفية ونبوغ الوفد الفلسطيني، ليضرب ممثلو حماس نموذجا للمفاوض البارع الناجح، رغم محاولات الصهاينة، وتحايلهم وتفسيراتهم الخاصة لبعض بنود الاتفاق لإفراغه من مضامينه دون طائل.
إذا كانت تلكم هي بعض الرمزيات والدلالات العامة لهذا اليوم التاريخي، الذي يؤرخ لانتصار الشعب الفلسطيني، وإخفاق قطعان بني صهيون، التي عبرت عنه تصريحات الوزراء والعديد من الخبراء الصهاينة، وهم يتباكون، ويتحسرون على المشهدية العامة التي ترافق هذه العودة الناجحة للنازحين الفلسطينيين، فما هي الرمزية التي يمكننا نحن العرب والمسلمين أن نقدمها إلى إخواننا وأهلنا في غزة، بعدما خذلناهم أثناء هذه الحرب المدمرة ولم نقم بالعديد من المبادرات التي كان بإمكانها وقف الحرب و تقديم الدعم اللازم حينها للضحايا من أجل التخفيف من آثارها، فهل نصحح أخطاءنا، ونكفر عنها، ونَهُبَّ لتقديم المساعدات المادية والعينية من أجل إعادة توطين سكان القطاع في قراهم ومدنهم، ريثما يتم إعمار ما دمر من بيوت في غزة العزة، فالزمن وحده كفيل لإظهار مصداقيتنا وصدقنا تجاه القضية الفلسطينية، طمعا في أن نظفر بسهم في دعم المستضعفين.
عمل و تحليل موفقين و هادفين.
جازاكم الله خيرا على مجهوداتكم و كان في صفحات حسناتكم
اتمنى ان يسمع و يطبق النداء