رأي

رأيي في التعديلات المقترحة على قانون مدونة الأسرة (18) : مرجعية مدونة الأسرة المغربية ومصادر أحكامها

الدكتور أحمد كافي

المادة400 مدونة الأسرة/ الحلقة الثانية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطورة التخلي عن المادة 400:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن المادة 400 إفصاح عن مصدرية المدونة ومرجعيتها في المنصوص وفي غير المنصوص من الأقضية المعروضة على القضاء. وأهميتها في توحيد القضاء، والانطلاق من المرجعية التي هوية الأمة المغربية.
ولا يفهم خطورة هذه المادة إلا من قارن بيننا وبين الدول التي أهملتها، ماذا كان عندهم من السوء في المجتمع وفي المحاكم.
التجربة التونسية وتغييب تحديد المرجعية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد تجنبت البلدان الإسلامية التي حددت مرجعيتها جميع اللغط حول مسألة المرجعية في المسائل الاجتهادية الخلافية، أو المسكوت عنها مما لم يرد التنصيص على حكمها.
بينما أخذت التجربة التونسية مسار عدم التحديد، ففتحت الصراع الإيديولوجي على مصراعيه في تفسير موادها.
وهذا الاختيار والتحديد للمرجعية من المغرب ليس عبثا، وخاصة في هذه الأعصر الأخيرة، حيث اعتنق بعض بعض النخب مرجعيات مخالفة للمرجعية الإسلامية، ينافحون ويناضلون عنها، بل يعادون ويحاربون المرجعية الإسلامية.
نماذج من غياب التحديد في مجلة الأحوال الشخصية التونسية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المثال الأول: زواج المسلمة بغير المسلم:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لم يتم التنصيص على هذا الأمر في قانون المجلة، لأن الجيل الذي وضع مواد مجلة الأحوال الشخصية لم يكن يتصور أن جيلا بعده سينازع في هذا الموضوع، وسيتمرد على التقيد بالهوية الإسلامية لمريد الزواج ذكرا كان أو أنثى.
ولم يكن الإصرار على التحديد غائبا، ولكن بعض أهل العلم هناك اختاروا عدم الجد والحسم في المسألة، ولم يصروا على إدراج الموانع كاملة. ولم يكن لهم تحديد لمرجع عند التنازع في غير المنصوص ثانية.
ولقد أسلموا بالتراخي في التنصيص والتحديد، وفي عدم ختم جميع الفصول بالمرجعية في النوازل والمستجدات التي يكون المشرع قد سكت عنها، وظهرت عند التقاضي، تركة ثقيلة في باب النزاع بين الفرقاء، وأعني هاهنا:
من يصر على المرجعية الإسلامية للمجلة، وبين من لا يقبل بهذا، ويجعل الأولوية للمواثيق الدولية، كاتفاقيات سيداو وغيرها. وهم أحدّ أنيابا في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم.
نعم، ناضل بعض الشيوخ زمن إعداد المجلة ضد هذا الانحراف الذي رأوا فيه مؤشرا لمآلاته التي يتدرج القوم في الوصول إليها عبر الزمان. فلم يجدوا نصيرا يقوي صمودهم ويرفض التلاعب بالأسرة هناك.
إن الفصل 14 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية، نجده ينص على ما يلي:
” موانع الزواج قسمان: مؤبدة ومؤقتة.
فالمؤبدة: القرابة أو المصاهرة أو الرضاع أو التطليق ثلاثا،
والمؤقتة: تعلق حق الغير بزواج أو عدة”.
رفض بعض أهل العلم هذه المادة وقتها بهذا الشكل، وكان الاعتراض ينصب على أمور، أهمها:
الأول: إن التطليق ثلاثا ليس مانعا من موانع الزواج المؤبدة، وإنما هو مغيا بغاية التزوج والتطليق من زوج آخر. وعدوا التنصيص على هذا المانع مخالفة صريحة لنص القرآن القاطع، في قوله تعالى:﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾[البقرة:230].
فهذا المانع القانوني يخالف صريح الآية القرآنية والسنة النبوية وإجماع أهل العلم، كما أنه مخالف لعمل جميع الأمصار الإسلامية.
الثاني: وفي الوقت الذي جعل ما ليس بمانع أبدي، مانعا أبديا، فإنه لم يدرج مانع زواج المسلمة بغير المسلم. وهذه مخالفة ثانية صريحة لقوله تعالى:﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾[الممتحنة: 10].
فأصبح المجتمع التونسي أمام معضلة كبيرة تتعلق بعدم حصر المشرع لجميع موانع الزواج، وانعدمت المرجعية في باب غير المنصوص. فظهرت في البلاد التونسية توجهين كبيرين بين القضاة:
الأول: يعتمد على دستور البلاد في وجوب التحاكم إلى المرجعية الشرعية.
الثاني: لا يُكن ودا لهذه المرجعية، ويعتبر السكوت حق للقضاء في تقدير سلطته بما يتوافق مع المرجعية الكونية.
وهناك إصرار من قضاة ومحامين على اعتبار المسكوت عنه مما يفسر في إطار التوسعة لا التضييق، وهؤلاء معروفة انتماءاتهم المخالفة والمعارضة للهوية الدينية للمجتمع، والمناهضون علنا للخلفية الإسلامية.
وكان أغناهم من كثرة الدلاء في بئر الجدل، لو أُحكم الأمر ابتداء، بتحديد مصدر المجلة ومرجعها الذي يلزم القضاة والمحامين به.
النزاعات الحكومية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وانتقل التنازع والجدل إلى الحكومات المتعاقبة، فكان وزير العدل يرسل منشورا تفسيريا يتعلق بموضوع زواج التونسيات بغير المسلم. ثم يتم نسخ هذا المنشور من قبل وزير يأتي بعده. فأصبحنا أمام لعبة نسخ المناشير بين الوزراء.
من ذلك، أنه لحسم التوجهات عند القضاة، جاء منع تزوج المسلمة بغير المسلم في منشور تفسيري لوزير العدل التونسي صلاح الدين بالي تحت عدد216، الصادر بتاريخ 5 نونبر1973م. ثم ألغي هذا المنشور التفسيري بمنشور جديد لوزير العدل غازي الجريبي، وهو المنشور رقم164 الصادر بتاريخ 8 شتنبر 2017م القاضي بإلغاء المنشور السابق، وتمكين التونسية من الزواج بغير المسلم.
حب حصيد القول:
والشاهد عندنا هاهنا، أن عدم تحديد المرجعية عند التنازع، قد أفضى اليوم إلى ما يعيشه التونسيون من الخلاف حول زواج المسلمة بغير المسلم، وأن لا إلزام أو تكليف إلا بنص، والنص مفتقد في هذه النازلة، والمرجعية منعدمة، والتأويل مسرح يتسع للقول ونقيضه.
فهل استوعب العلماء وغيرهم خطورة ما سيقع للمجتمع المغربي عند حذف مرجعية مدونة الأسرة؟
المثال الثاني: اختلاف الدين في الميراث
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قلنا: إنه لما لم يقع تحديد المرجعية والإحالة عليها للصدور من خلالها، فقد وجدنا الصراع القضائي في تونس بارزا منذ صدور مجلة الأحوال إلى اليوم، وجدناه نزاعا واضحا حول المرجعية. ووجدنا الاختلاف في الحكم بين مدينة وأخرى، بل في المدينة الواحدة، بحسب ميول القاضي وتوجهه إلى مرجعية من المراجع، وتناقضات المحامين بحسب حال المحامي وتوجهه هو أيضا().
ويظهر جلاء هذا اللغط جيدا في المرجعية عند التونسيين في مسألة: اختلاف الدين، هل يعد مانعا من موانع الإرث أم لا؟
أي هل يحق للمتزوج قضاء بغير المسلم أن ترث زوجها غير المسلم، ويرثها هو أيضا؟
وللأسف مرة أخرى وجدنا الخطورة ذاتها. حيث لا يوجد نص في مجلة الأحوال الشخصية التونسية ذكر لهذا المانع. وفي فصل الموانع، نجد فصلا يتيما، وهو الفصل88 الذي كثر التشاغب حوله، ينص على أن:” القتل العمد من موانع الإرث، فلا يرث القاتل، سواء أكان فاعلا أصليا، أم شريكا، أو كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام وتنفيذه”.
هذا هو الفصل الفريد الوحيد في موانع الإرث. وقد اختلفت التأويلات. وجميعها ترجع إلى تأويلين:
الأول: محافظ، وهو القائل بأن اختلاف الدين من موانع الإرث كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية، ومعمول به في الدول العربية والإسلامية منذ قرون خالية، ولم يحكم القضاة بخلافه.
الثاني: وهو للتيار العلماني الحداثي، والذي تقرر في قراءته للفصل 88 إلى أن المانع القانوني الوحيد صرحة وتنصيصا عليه، هو القتل العمد بمباشرته، أو المشاركة فيه، أو التسبب فيه بشهادة الزور المؤدية إلى إيقاعه.
وهكذا نجد الخلاف في الحكم والقول به في تونس، يرجع:
1ـ إلى غياب النص الصريح على جميع موانع الإرث، وذكر مانع واحد.
2ـ وغياب الإحالة على المرجعية عند غياب التنصيص.
ففتحت هاتين الثغرتين، الشد والجذب في الحراك التونسي بين أنصار كل رأي.
وإن كان القائلون بأن اختلاف الدين مانع من الموانع نصا عليه من خلال عبارة الفصل الذي جعل هذا المانع غير محصور، فقالت:” القتل العمد من موانع الإرث”، وحرف:” من”، للتبعيض وليس للحصر.
ومع كل ذلك، لم يلتفت مذهب بعض الفقهاء القانونيين إلى إضافة ما ليس بمنصوص إلى المنصوص، بتأويلات بعيدة، والتأويل لا يعدمه أحد. منها: إن الملزم هو ما تم النص عليه، وغير ذلك ينظر القاضي في غير المنصوص بإعمال آليات وقواعد التفسير المتعددة: كروح المشرع، والواقع الآن، والعلاقة بين هذا الحالة وحالة الاتفاقيات الدولية كالفصل 16 من اتفاقية سيداو…الخ.
وكل هذا الماروطون الطويل، واللجاج الحاد، عائد إلى انعدام التنصيص على المرجعية.
إصلاح هذه المادة:
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وكنا سنقع فيما وقعت فيه تونس بشكل مبكرا قبلها، ولكن الله حفظ البلاد بإصلاح الغلط الذي وقع فيه المشرعون الأول لقانون الحوال الشخصية.
لقد كانت الكتب التي تشكل مدونة الأحوال الشخصية عام1957 تتكون من ستة كتب مثل الذي هي عليه اليوم. وصدرت الكتب متفرقة.
فصدر كتاب الزواج، وكتاب انحلال ميثاق الزوجية: بظهير 22 نونبر 1957م. ثم تلاهما كتاب الولادة ونتائجها: صدر بظهير 18 دجنبر 1957م. ثم تلاه كتاب الأهلية والنيابة الشرعية: صدر بظهير 25 يناير 1958م. ثم تلاه كتاب الوصية: صدر بظهير 20 فبراير 1958م. ثم صدر أخيرا كتاب: الميراث: بظهير 3 أبريل1958م.
غير أن هذه الكتب الستة قد ذكرت في آخر كل كتاب صدر:” كل ما لم يرد به نص في هذا الكتاب، يرجع فيه إلى الراجح أو المشهور أو ما جرى به العمل في المذهب المالكي” باستثناء كتابين: كتاب الزواج وكتاب الولادة ونتائجها، فاختلف القضاة في الالتزام بهذه المرجعية في الكتب التي لم تذكر هذه الخاتمة، بناء على أن المشرع إذ ذكر ذلك في أربعة كتب، ولم يتم التنصيص عليها في كتابين دليل على عدم لزوم الالتزام بهذه المرجعية. فتمت إصلاح هذه الثغرة بذكر هذا النص مرة واحدة في القانون كله، ليشمل جميع الكتب.
أبعد أن أصلحنا المادة، نعود اليوم لنفسدها بالتخلص منها؟ لنعود إلى مشكلات التأويل بحسب التوجه الشخصي للقاضي.
إخراجنا من المحنة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد أخرجت هذه المادة القضاة من محنة كبيرة، تتثمل واحدة من هذه المحن في المادة 16 من مدونة الأسرة التي جعلت مدة خمس سنوات أمدا أقصى لسماع دعوى الزوجية. ثم وجد المغرب نفسه أمام ضائقة، فجاء ظهير بإضافة خمس سنوات أخرى..ثم أصبح الناس بعد انصرام عشر سنوات أمام معضلة سماع دعوى الزوجية للذين يريدون تصحيح وضعيتهم الإدارية، فلم يكن من حل للقضاة سوى هذه المادة مفزعا لإثبات أنكحة الناس في غياب تشريع في الموضوع.
(يتبع إن شاء الله تعالى)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى