رأي

هل يظفر بنكيران بولاية جديدة في مؤتمر حزب العدالة والتنمية؟

سعيد الغماز-كاتب وباحث

يستعد حزب العدالة والتنمية لتنظيم مؤتمره التاسع نهاية شهر أبريل الحالي، وهو يتأرجح بين الاستمرار أو التجديد، بمعنى استمرار القيادة الحالية أو فتح المجال للصف الثاني. ينعقد المؤتمر في ظل ظروف استثنائية تمر منها بلادنا، وفي مرحلة استثنائية عاشها حزب البيجيدي. هذان العاملان، يجعلان مؤتمر الحزب، الذي ترأس الحكومة لولايتين متتابعتين، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ السياسي المغربي، يكتسي أهمية كبرى. والأكيد أنه سيحظى بمتابعة كبيرة لمعرفة الأمين العام الذي سيخلف بنكيران. هل عبد الإله سيخلف بنكيران؟ أم أن الحزب سيختار طريقا آخر.
يتحدث كثيرون عن الديمقراطية الداخلية التي يتميز بها حزب العدالة والتنمية، وهو معطى حقيقي يجعل من الحزب، حزب مؤسسات وليس أشخاص. والتصويت السري هو الفيصل لحل كل اختلاف في الرأي وفي الاختيار. لكن من السذاجة الاعتقاد أن الحزب سيدخل المؤتمر بدون ترتيبات، وبدون توافقات، وأنه سيتم فتح التصويت على إزار أبيض لاختيار الأمين العام. هذا المنطق لا نجده حتى في المدينة الفاضلة ولا في عالم مثل أفلاطون. إنه مؤتمر لحزب سياسي، ومن الطبيعي، أن يكون خاضعا لحسابات سياسية أيضا، قد تكون مرتبطة بالوضع الداخلي للحزب كما قد تكون مرتبطة بالشروط العامة.
ينعقد مؤتمر الحزب على أرضية سياسية، والسياسة في اختيار الأمين العام يكون فيها الخفي أكبر بكثير من المعلن. وهذا منطق طبيعي يسري على جميع الأحزاب. اللهم إن كنا نحمل عقلا طوباويا في التفكير، وهو عقل لا مكان له في عالم السياسة وفي دائرة الأحزاب. فالأكيد أن هناك نقاشات داخلية بين قيادات الحزب، حول من يكون الأمين العام المقبل. ومما يزيد هذه النقاشات حدة وتشويقا، كون الحزب يقف على مفترق طرق بين استمرار قيادات الصف الأول، وبين تسليم المشعل لقيادات الصف الثاني.
الاختيار بين الاستمرار والتجديد، لن يكون سهلا أمام الحزب، والأكيد أن المؤتمر القادم، سيعرف نقاشات حادة، وخلافات متباينة في الرأي. وهي محطة طبيعية، تمر منها جميع الأحزاب في فترة من تاريخ تواجدها، حتى في الدول الديمقراطية. فحزب العدالة والتنمية، أمام رهانات كبرى تتجلى في رهان التجديد وفتح المجال للصف الثاني، ورهانات الاستمرار مع ما يعنيه ذلك من تعميق الصراع القائم أصلا بين قيادات الصف الأول. والأكيد أن الحزب بما تمرس عليه أعضاءه من ديمقراطية داخلية، ومن إيمان راسخ بالمؤسسات، وحرص على استقلالية القرار الحزبي، قادر على حسم خلافاته بصناديق الاقتراع. ولن نشهد في مؤتمر الحزب تراشقا بالصحون أو عراكا بالأيدي أو انتظار رأي جهات عليا كما رأيناها بكل أسف في أحزاب كبرى. لكن مع ذلك نُقر بأن الاختيار لن يكون سهلا وأن المؤتمر، إذا أخذنا الكثير من المعطيات، سيمر في جو مشحون وأجواء يغلب عليها التوتر.
نقول بأن مؤتمر الحزب سيمر في جو مشحون، اعتبارا للكثير من المعطيات نكتفي بذكر معطيين حدثا في أسبوع واحد:
المعطى الأول يتمثل في تدوينة للدكتور سعد الدين العثماني، يقول فيها بضرورة فتح المجال لتشبيب الحزب، وإعطاء فرصة القيادة لجيل جديد. المتتبع للشأن الداخلي لحزب العدالة والتنمية، يفهم جيدا أن الدكتور سعد الدين العثماني لم يعد له طريق للرجوع إلى قيادة الحزب سواء كأمين عام للحزب أو كعضو في أمانته العامة، وذلك لأمرين اثنين هما توقيعه على اتفاقية التطبيع، واستقالته من الأمانة العامة. وهو أمر يعني تحمله مسؤولية ما وقع للحزب. وتدوينة العثماني قد يفهم منها معارضوه، أنه يريد قطع الطريق عن الصف الأول بعدما تبين له استحالة رجوعه وهو شخصية محسوبة على الرعيل المؤسس لتجربة الحزب.
الدكتور سعد الدين العثماني، ترك الحزب في حالة ضعف غير مسبوق. والاستقالة الجماعية للأمانة العامة هو من جهة اعتراف بتحمل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الحزب، ومن جهة أخرى سلوك سياسي لا بد من التنويه به لكي تسير باقي الأحزاب السياسية على هذا المنوال الذي يعكس الممارسة السياسية السليمة، بدل السلوك المنتشر مع كامل الأسف في كثير من الأحزاب، والقائم على الهروب إلى الأمام “بتخراج العينين” ومنطق “ولو طارت معزة”. وهو منطق يكرس الفشل ويُطبِّع مع الرداءة في السياسة.
المعطى الثاني يأتي من تصريحات الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران خلال زيارته لمنطقة سوس ماسة، وخاصة ما قاله في أولاد برحيل. فالذي يعرف جيدا الأستاذ بنكيران، ويتقن قراءة ما يُحكى بين السطور، سيتضح له بكل جلاء أن بنكيران يشتغل على ولاية أخرى كأمين عام للحزب في المؤتمر القادم. ومكانة الرجل في الحزب، ستجعل الاختيار صعبا وصعبا جدا في المؤتمر القادم.
تسلَّم الدكتور العثماني الحزب من عبد الإله بنكيران وهو في أوج قوته: 125 مقعدا برلمانيا وتسيير معظم الجماعات الكبرى وتدبير جهتين. لكنه ترك الحزب في أسوأ الأحوال وقدم استقالته تعبيرا منه عن تحمله مسؤولية الإخفاق. جاء بنكيران لتحمل مسؤولية الحزب من جديد. وجميع أعضاء الحزب يُجمعون على أن بنكيران قام بعمل كبير، واستطاع في ظرف وجيز، إعادة الحزب إلى الساحة السياسية، وإلى الظهور بقوته المعهودة.
تحركات عبد الإله بنكيران فاقت بكثير تحركات الأمناء العامين لباقي الأحزاب بمن فيهم الأحزاب الثلاثة المشكلة للتحالف الحكومي، وحضوره في الساحة السياسية أقوى من باقي قيادات تلك الأحزاب. الأمر الذي جعل حزب العدالة والتنمية يبدو في أعين المواطنين، حزبا متفوقا في أداءه عن باقي الأحزاب، رغم كونه لا يتوفر على فريق برلماني. وقد شكل الحضور القوي لرئيس المجموعة النيابية الدكتور عبد الله بووانو، ولرئيس المجلس الوطني للحزب الدكتور الأزمي الإدريسي، قيمة مضافة ساهمت في تعافي الحزب بهذه السرعة، إلى جانب الأداء المتميز للأستاذ بنكيران بطبيعة الحال.
مقارنة بسيطة بين عدد بيانات الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، وعدد بيانات المكاتب السياسية لباقي الأحزاب، تجعلنا نلاحظ أن الحزب يشهد دينامية في العمل تفوق بكثير ما تقوم به الأحزاب الأخرى. كما أنه صوت مسموع في الساحة السياسية، ولا يمكن تجاهل قوته السياسية والاقتراحية. هذا الواقع جعل البيجيدي يشكل دينامو العمل السياسي في البلاد، مما جعله يدخل في اهتمامات جميع الأحزاب، والكل يناقشه ويجادله في أطروحاته، رغم أنه حزب لا يتوفر حتى على فريق برلماني.
نجاح الأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية في كسب رهان تقويم موقع الحزب وتجاوز ما تركه سلفه الدكتور العثماني، جعل الأستاذ عبد الإله بنكيران يُقوي موقعه داخل الحزب، ويصبح من الناحية الحزبية والسياسية، ورقة صعبة داخل الحزب، ليس من السهل تسيير الحزب في اتجاه مخالف لرأي بنكيران. وتشبث الأخير بولاية أخرى على رأس الأمانة العامة، جعل الاتجاه الآخر المطالِب بالتجديد يعاني من تدافع داخلي غير متكافئ أمام قامة من طينة بنكيران. هذا الواقع قد يفسر استقالة بعض القيادات.
لا أحد ينكر ما قام به بنكيران فيما حصل عليه الحزب بعد الربيع العربي. ولا أحد ينكر ما قام به الرجل في إصلاح ما فشل فيه الدكتور العثماني خاصة بعد انتخابات 08 شتنبر 2021. لكن في المقابل نقول إن هذا التاريخ، وهذه الإنجازات التي راكمها بنكيران، جعلته داخل الحزب في موقع الاحتكار بلغة الاقتصاديين. فالحزب أصبح بين صوت قوي ومسموع على رأسه بنكيران، وصوت آخر بينه وبين جناح بنكيران مسافة كبيرة وكبيرة جدا.
هذه الوضعية ليست في صالح مستقبل الحزب، لأنها تقف أمام أي محاولة للتغيير، وتحجب الرؤيا عن الاختيارات الأخرى، وقد تحجب الرؤيا عن الاختيار الصحيح الذي يناسب الحزب في مرحلة ما بعد المؤتمر القادم. وإذا أضفنا تضخم الأنا لدى الزعيم بنكيران، وهو ما يلاحظه الكثير من مناضلي الحزب، نكون أمام معضلة حقيقية خلال المؤتمر المقبل للحزب. فتضخم الأنا منطق لا يتناسب مع واقع الممارسة السياسية في البلاد.
بين الاستمرار والتجديد، بَوْنٌ كبير يميل لصالح الجهة التي يقف فيها بنكيران. وقراءة بسيطة للواقع السياسي في البلاد المرتبط بما هو إقليمي ودولي، وأخذا بعين الاعتبار تجارب الأحزاب الأخرى التي أتى بها الربيع العربي في بلدان أخرى…نظرا لكل ذلك، نقول إن التجديد لبنكيران لولاية أخرى قد لا يكون الاختيار الأصوب للحزب في المرحلة القادمة.
حزب العدالة والتنمية محتاج لبنكيران “الدينامو” الذي يستطيع تحريك السياسة في البلاد وتقوية الحزب، لكنه ليس في حاجة لبنكيران الذي يعاني من تضخم الأنا، لأن ذلك سيجعل الحزب يدخل في صراعات هو في غنى عنها. فتشبث بنكيران بولاية جديدة، سيجعل المؤتمر يختار بين قامة عبارة عن بحر من الإنجازات والحضور القوي، ومنافس عبارة عن نقطة تريد أن تجد لها موطأ قدم في هذا البحر.
إذا كان حزب العدالة والتنمية في حاجة لبنكيران الدينامو الذي ما زال في جعبته الكثير، وليس في حاجة لبنكيران صاحب تضخم الأنا، فإن المؤتمر القادم للحزب مطالب بإبداع الحلول لكي يستفيد أقصى استفادة من جميع الخيارات المتاحة أمامه. الاستفادة من قوة بنكيران، وفتح مجال المسؤولية لجيل جديد، هي المعادلة التي يقف عليها المؤتمر القادم للحزب. وهي معادلة لا تحتاج لمتخصص في الرياضيات لإيجاد حل لها، بقدر ما تحتاج لإعمال منطق الحكمة في تدبير الاختيارات الموضوعة فوق مائدة المؤتمر.
لا أتحدث عن حكمة سقراط حين قال “كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا”، وإنما أتحدث عن حكمة ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، كما جاء في سورة البقرة الآية 269. وحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ كما جاء في سورة آل عمران الآية 164، أي أن الرسول ﷺ جاء ليُعلِّم الناس العلم النافع المقرون بالحكمة. وكذلك حكمة رسول الله ﷺ (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه” (رواه مسلم.
الاختيارات السياسية تتجاذبها في الغالب قوتان: قوة تنظر للواقع كما هو في محيطه السياسي، وقوة ثانية تنظر للواقع كما تريده هي وتتمناه. والاختيار الأصوب للحزب هو تغليب النظرة الأولى وإبعاد النظرة الثانية، وهو ما يعني بلغة المفكرين، الانحياز للواقعية والابتعاد عن الذاتية. ويعني بلغة الفلاسفة فَهْمَ الواقع كما هو بالابتعاد عن المثالية، وبلغة الحكماء إضاءة المستقبل بنور الماضي. فالعديد من مناضلي الحزب يناصرون التجديد لبنكيران لأنهم ينظرون للواقع كما يريدونه أن يكون، وليس كما هو في مؤسسات الدولة. لكن الواقع كما هو حاله في الساحة السياسية، له حسابات أخرى قد تتماشى مع فتح المجال لأمين عام من جيل جديد. واختيار المؤتمرين سيعكس مدى تجذر الوعي بفقه الواقع في الحزب، ودرجة نضج فهم الممارسة السياسية المعقدة في بلادنا.
العقل المتجرد من الواقع، والذي يُغَيِّب استقراء المستقبل، سيختار دون تفكير التجديد لبنكيران. فاستحضار خطاباته خلال الربيع العربي، وتدخلاته القوية في البرلمان كرئيس للحكومة، وإفشاله للمخطط البامي، وما تعرض له في البلوكاج، وما قام به لترميم الدمار الذي خلفه العثماني، والشعبية التي مازال يحتفظ بها إلى الآن…كل ذلك يسير في اتجاه التجديد لبنكيران. لكن هل هذا هو الاختيار الصائب؟ هل هو القرار الحكيم؟
هنا أستحضر مقولة حكيمة وعقلانية للفيلسوف طه عبد الرحمان، وهو ينتقد الحداثة المستوردة من الغرب. جاء في المقولة “حداثة بدون إبداع وعقلانية بلا تفكير”. نعم…هناك نوع من العقول لا تفكر. الإبداع والتفكير هي المفاتيح السحرية للمؤتمر القادم لحزب العدالة والتنمية. إبداع في الحلول وتفكير جيد لفهم أين يسير الحزب.
الجواب عن معادلة الاستمرار والتجديد، ليس من السهل على مؤتمر البيجيدي الفصل فيه، إذا استحضرنا المقولة الشهيرة للروائي الفيلسوف دوفتويسكي “إن القيام بخطوة جديدة أو التلفظ بكلمة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس”. وربما تكون مقولة نفس الروائي الفيلسوف “القوة لا تُمنح إلا لأولئك الذين يجرؤون على الانحناء والتقاطها”، تفسر بعض عناصر الحل للمعادلة الصعبة: التجديد أم الاستمرار.
هذا كله يفيد أن الحكمة ليست مجرد معرفة، بل هي مزيج من العلم، والفهم العميق، والتصرف السديد، والأخلاق الرفيعة. وقد جعلها الله من أعظم النعم التي يمنحها لعباده، وأوصى بها نبيه ﷺ في كل أمور الحياة.
وأعتقد أن الحل الأمثل لمعادلة الاستمرار مع بنكيران أو فتح المجال للتجديد وللجيل الجديد، التي تشكل التحدي الرئيسي للمؤتمر، يتحدد في اختيار الأمين العام القادم من صفوف الصف الثاني، وإحداث هيئة جديدة تفتح المجال أمام بنكيران للبقاء في الساحة السياسية واستمراره كدينامو لتحريك السياسة في الحزب وفي البلاد، كإحداث هيئة استشارية أو لجنة للحكماء على سبيل المثال.
إنه الاختيار الصائب والأنسب ليبقى الحزب قويا في المشهد السياسي. أما إبعاد بنكيران ودفعه للتقاعد القسري، واختيار أمين عام جديد، فسيفرض على الحزب مرحلة انتقالية، للخروج من وهج القوة السياسية التي أسسها بنكيران. وقد تكون هذه المرحلة الانتقالية متسمة بنوع من الضعف السياسي إن لم يتوفق المؤتمر في الاختيار الأصوب لخليفة بنكيران.
أما الانتخابات القادمة في 2026، فتلك رواية أخرى، خاضعة لمنطق يتجاوز رقعة الوطن. وخاضعة هي الأخرى لمعادلة الاستمرار في منطق 8 شتنبر، أو تجديد الأسلوب لإنقاذ البلاد من التراجع في مؤشرات الحكامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى