رأي

القول الفصل في مسألة سماع الموسيقى

من توقيع الشيخ المقرئ عبد اللطيف بوعلام الصفريوي

لا شك أن الحديث في هذا الموضوع بالذات قد أرَّق العديد من الفقهاء والعلماء، وأثار جدلا كبيرا إلى حد التكفير والعداء؛ حيث سال فيه مداد كثير وفتاوى مدوَّنة كتابة أو شفاهيا على مر العصور..

ولقد اختلفت انقداحاتهم وآراؤهم حول هذا الموضوع الشائك بناءً على فهم النصوص الشرعية الواردة صراحة أو إيماءة تبعا للأدلة المستنبطة منها.

فلنبدأ بعرضها وتحليل الجوانب الغامضة فيها.

 * الرأي الأول، وهو القائل بتحريمها مُستَنَده الأحاديث النبوية الصريحة التي تُحرّم آلات اللهو أو الغناء المصاحب للموسيقى، والمتمثلة في قول النبي ﷺ: «لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتِي أقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ …». (صحيح البخاري: 5590).

الحِرُ هو اسم من أسماء الفرْج، والقصد منه الإشارة إلى الزنا.

وكلمة “المعازف” قد فُسِّرت بأنها آلات اللهو أو الموسيقى.

كما استدلوا كذلك بقول الله تعالى بسورة لقمان: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذُهَا هُزُؤاً ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6)”، وفُسِّر “لهو الحديث” بأنه الغناء، وأغلبه يكون ممزوجا بالآلات الموسيقية التي تلهي عن ذكر الله، وتصرف القلب عن العبادة، وهي مقدمات إلى الوقوع في المعاصي إذا كانت مرْفقة بكلمات غير لائقة أو في بيئات غير شرعية كما هو الشأن في وقتنا الحالي الذي قَلَّ فيه الحياء إلى ما تحت الصفر بسنوات ضوئية عديدة لاشتمال الآلات على كلمات كفرية وجنسية مؤذية، والغريب العجيب أن هناك من يطوع الآيات لذلك الغرض.. والأفظع أن لدى المغنين والمغنيات _ مع كامل الأسف _ جمهورا واسعا عريضا من القوم التُّبَّع لهذه التفاهات والتراهات.

*أما بالنسبة للرأي الثاني؛ فيرى في هذه الآلات الإباحة المقيدة بضوابط وشروط بحسب نوع الموسيقى ومحتواها ومكانها وزمانها؛ حيث يرون أن الحديث الذي ورد فيه ذكر “المعازف” لا يشمل جميع أنواع الموسيقى، بل يشير بوضوح إلى ما كان ممزوجا بالخلاعة والفجور في زمن النبي ﷺ.

واستندوا في إباحتهم للطرب المحمود ما رُوي في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل عليَّ رسول الله ﷺ وعندي جاريتان تغنيان وتضربان بالدف…”.

وهذا يدل على أن الغناء بالدف كان مباحا في المناسبات السعيدة كالزواج شريطة عدم اشتمال تلك الآلة الطَّرَبية على كلمات خادشة للحياء صارفة عن ذكر الله.

*أما الرأي الثالث، فوقفوا في الوسط، وقالوا بالكراهة دون الحُرْمة، ودليلهم اتكاء ما أجراه الله بسورة يوسف على لسان امرأة العزيز في اعترافها:

“وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي” (53).

بمعنى أن النفس قد تنجذب في أغلبها إلى الأمور التي تلهيها عن الخير، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأمر حرام، إذ يُترك الحكم للمسلم نفسه بناءً على نيّته واستخدامه للموسيقى.

واتفق الجميع على أن تلك المعازف إذا كانت تحتوي على كلمات غير لائقة أو أدت إلى الإلهاء عن الصلاة والواجبات الدينية أو إضاعة الوقت أو صاحبت أماكن محرمة كالخمارات والمراقص الليلية.. فهي محرمة بالإجماع.

أما إذا تم استخدامُها في المناسبات الجيدة المثيرة للحماسة والشجاعة، فقد تكون مباحة أو مستحبة، ودليل الإباحة مستلهَمٌ من قصة مزمار داود ( تُكتب بواو واحد، وتُنطق بواوين تخفيفا لتوالي المثْلين كنحو طاوس) عليه السلام،

فلقد وردت روايات تشير إلى أن النبي داود كان يمتلك صوتًا أخاذا عذبًا جدًا، وكان يتغنى بتسبيح الله وذكره بأناشيد وألحان جميلة. قال الله تعالى مُمْتَنّاً عليه: “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ…”(من سورة سبأ الآية: 10). والمراد أن الله حَبَا سيدنا داود واختصه بنعمة مميزة في الذكر والتسبيح، إذ كانت الجبال والطيور تسبح معه بأمره سبحانه وتعالى.

ولقد ورد في بعض الروايات أن داود كان يستخدم نوعًا من الآلات الموسيقية البسيطة (مثل المزمار) في تسبيح الله، وهذا ما أُطْلِق عليه لاحقًا “مزمار داود”. ومع ذلك؛ فلم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية نصوص صريحة تؤكد استخدام داود عليه السلام للمزمار بشكل مباشر…

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله عليه أطيب الصلاة والسلام: ” لَوْ رَأيتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، فقلت: يا رسول الله لَوْ عَلِمْتُ مَكَانَكَ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيراً .. “. أي لحسَّنته وزينته أفضل مما سمعت، ولقد أورد البخاري حديثا مرويا عن أبي هريرة رضي الله عنه مفاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

” لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ، وزادَ غَيْرُهُ: يَجْهَرُ بهِ “.

 إذاً؛ فالتغني بالقرآن جائز ومرغوب فيه شريطة التقيد بالضوابط التجويدية التقعيدية لهذا الفن الراقي بالتنقل في المقامات دون تكلف أو استطالة في المدود، وغيرها من المخالفات التي لا يقرُّها الشيوخ الأفذاذ الحريصون على احترام القواعد والأحكام.

ثم نختم القول بحال موسيقانا اليوم المرافقة لنا في الشوارع والموبيلات.. والتي يُستخدم معظمُها في أماكن التسلية واللهو، وأغلبها مُرْفق بكلمات غير لائقة تصل إلى حد الكفر والتنكيت والاستهزاء بالآيات من قِبل الرابورات ناهيكم عن المشاهد المؤذية للنظر من تبرج وخلاعة، وسلوكات، وحضرة تتعارض مع القيم الإسلامية، والسبب يُعزى في نظري إلى توسعتنا في المباح وعدم تقيدنا بباب سد الذَّرَائِعِ، والذريعة عند الأصوليين هي الوسيلة أو الطريقة الموصلة إلى الشيء المراد أو المقصد، ويتجلى سدّها في حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة مُنِع من ذلك الفعل المباح في الأصل أو الظاهر لكونه يُتوصل به إلى حرام أو يؤول إليه، ولقد توسع الناس في هذا الباب من العناق إلى التقبيل، والستر إلى التبرج السافر.. في الأماكن العامة والخاصة، وهلم جرا من الوضعيات غير المقبولة إنسانيا، فبالأحرى دينيا.. ومن أنكر عليهم اتهموه بالتخلف والظلامية، وجعلوه مرتعا للعقد النفسية، وطالبوه بتغيير أفكاره الرجعية غير المستساغة في عصر العولمة، وقد يخضع للمساءلة القانونية إن تدخل ملاطفة أو حِدَّةً في أحوال الناس الشخصية وحرياتهم الفردية.

ذلك أن التساهل في ضبط المسار وتقويم المسير هو الذي ولَّد لنا مجتمعات عنيفة لا تعرف لخُلق الحياء معنى ولا اعتبارا..

 وخلاصة القول: لنحرص جميعا ودائمًا وأبدا على أن تكون نياتنا خالصة لله، وأن نتجنب أي شيء يلهينا عن ذكر الله أو يؤدي بنا إلى معصيته…

وإذا كنا في شك بشأن نوع معين من الموسيقى، فإيماننا يُحتِّم علينا الاحتياط والحذر لأن ترك الشبهات أسلم لديننا كما هو مبثوث في قول النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث المتفق عليه، والذي رواه الشيخان، نعني بهما البخاري ومسلم: ” إنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الْحَرامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهاتِ وقَعَ فِي الْحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلَّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدْ كُلَّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ”.

نكتفي بهذا القدر، وإلى تِبيان آخر في إماطة اللثام عن الظواهر البعيدة عن تعاليم رب الأنام وخلق نبينا عليه الصلاة والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى