المؤتمر الوطني محطة مفصلية في حياة الأحزاب السياسية مؤتمر حزب العدالة والتنمية نموذجا
سعيد الغماز-كاتب وباحث

يعقد حزب العدالة والتنمية المغربي مؤتمره التاسع نهاية شهر أبريل. ونظرا للأهمية التي يحظى بها هذا المؤتمر من قبل الإعلام والصحافة والرأي العام المتتبع للحياة السياسية والحزبية في المغرب، نعرض في هذا المقال، دور المؤتمر الوطني في الحياة الحزبية كمحطة أساسية في العمل الحزبي، ونورد أهم المؤتمرات التي عرفتها الأحزاب الوطنية في التاريخ السياسي للمملكة المغربية، بما فيها المؤتمر القادم لحزب العدالة والتنمية.
يمثل المؤتمر الوطني محطة مفصلية وحاسمة في تاريخ الأحزاب السياسية، فهو ليس مجرد تجمع دوري أو مناسبة احتفالية، بل هو بمثابة القلب النابض الذي يجدد الدماء ويحدد المسارات ويبلور الرؤى المستقبلية للحزب.
عبْر تاريخ العمل السياسي الحزبي، أثبت المؤتمر الوطني أهميته القصوى في ترسيخ الديمقراطية الداخلية، وتعبئة المناضلين، وتحديث البرامج، وتعزيز الشرعية القيادية، والتكيف مع التحولات المجتمعية والسياسية. لذلك نقول إنه لحظة تفكير لمواكبة المستجدات وتجديد الحزب، بل إن المؤتمر الوطني هو بمثابة القلب النابض الذي يجدد الدماء ويحدد المسارات ويبلور الرؤى المستقبلية للحزب.
دور المؤتمر الوطني في بناء الرؤية السياسية:
يلعب المؤتمر الوطني دورًا محوريًا في صياغة الرؤية السياسية للحزب، فهو الفضاء الذي تُعرض فيه البرامج والتصورات، ويُفتح فيه النقاش بين مختلف الفاعلين الحزبيين، من القيادة إلى القواعد. وعبْر هذا النقاش، تُبلوَر التوجهات المستقبلية، ويُعاد تقييم ما تم تحقيقه. وتظهر أهمية المؤتمر بشكل خاص عندما تمر الأحزاب بمرحلة أزمة أو إعادة هيكلة، حيث يكون المؤتمر بمثابة منصة لإعادة التوازن الداخلي، وتحديد الخط السياسي الذي سيتبعه الحزب.
كما أن المؤتمرات الوطنية كثيرًا ما تكون مناسبة لتجديد النخب القيادية داخل الأحزاب، إذ تُفتح فيها الانتخابات على المناصب القيادية، ويُحاسب فيها المسؤولون على أدائهم. وهذا يعزز مبدأ الديمقراطية الداخلية، ويدفع نحو تجديد الدماء في مؤسسات الحزب، بما يتلائم مع التحديات السياسية المتجددة.
المؤتمر الوطني محطة لتقييم الأداء وتجاوز الأزمات:
تمر الأحزاب السياسية بمراحل من المد والجزر، وقد تواجه أزمات تهدد وحدتها أو مصداقيتها. وفي مثل هذه السياقات، يمثل المؤتمر الوطني فرصة ثمينة لإعادة ترتيب الصفوف، ومناقشة أسباب الإخفاقات وتقديم الحلول. فهو لحظة تقييم جماعي، يُستمع فيها إلى الأصوات المختلفة داخل الحزب، وتُعرض فيها التقييمات الموضوعية للمسار السياسي والمؤسساتي.
ومن خلال هذه الممارسة، يتحول المؤتمر إلى أداة للتصحيح والتجاوز، خصوصًا عندما يُفتح الباب للنقد البناء والحوار الصريح بين القيادات والقاعدة. بل إن بعض المؤتمرات الوطنية في تاريخ الأحزاب كانت نقطة تحول جذري، حيث تبنّى الحزب توجهًا جديدًا بالكامل، أو غيّر خطابه السياسي لمواءمة تطورات الواقع الوطني والدولي.
أثر المؤتمر الوطني على المشهد السياسي الوطني:
لا يقتصر أثر المؤتمر الوطني على الحزب فقط، بل ينعكس في كثير من الأحيان على كامل المشهد السياسي. فقرارات الأحزاب الكبرى في مؤتمراتها قد تؤدي إلى تحالفات جديدة، أو انسحاب من الحكومة، أو حتى تغييرات في التوازنات البرلمانية. كما أن الإعلام يواكب هذه المؤتمرات باهتمام كبير، لما لها من رمزية وتأثير في الرأي العام.
وعندما يكون المؤتمر منفتحًا وشفافًا، يَكسب الحزب شرعية إضافية ويعزز ثقة المواطنين في مؤسساته. وعلى العكس، فإن المؤتمرات التي تتسم بالانغلاق أو تنتهي بخلافات حادة قد تؤثر سلبًا على صورة الحزب ومكانته لدى الناخبين.
بشكل عام، يمكن تحديد أهمية المؤتمر الوطني بناءً على عدة معايير نذكر منها أساسا:
• انتخاب القيادة: المؤتمرات التي يتم فيها انتخاب قيادات جديدة للحزب غالبًا ما تكون ذات أهمية خاصة.
• تعديل التوجهات والبرامج: المؤتمرات التي تشهد مراجعة وتحديث البرامج السياسية للحزب تعتبر محطات هامة.
• معالجة أزمات وانقسامات: المؤتمرات التي تهدف إلى تجاوز خلافات داخلية أو معالجة أزمات تنظيمية وسياسية تكون ذات أهمية قصوى.
• التكيف مع التحولات الكبرى: المؤتمرات التي تنعقد في سياق تحولات سياسية أو اجتماعية كبيرة وتساهم في تكييف الحزب مع هذه المستجدات تكون حاسمة.
أهم المؤتمرات الوطنية التي عرفتها الأحزاب السياسية في المغرب:
تاريخ الأحزاب السياسية في المغرب مليء بالمؤتمرات التي شكلت منعطفا حاسما في تاريخها، وكانت النقاط السالفة الذكر حاضرة في مرحلة معينة من مراحل تواجدها وتطورها. نذكر على سبيل المثال:
المؤتمر التأسيسي لحزب الاستقلال (1943/1944): على الرغم من أنه لم يحمل اسم “المؤتمر الوطني” بالمعنى الحالي، إلا أن هذا التجمع الذي أَعلن عن تأسيس حزب الاستقلال في سياق الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، يُعتبر الحدث الأهم والأكثر تأثيراً في تاريخ الحزب. وضَع هذا المؤتمر اللبنات الأولى للحركة الوطنية المنظمة التي قادت المغرب نحو الاستقلال، وتم فيه تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، التي تعتبر بمثابة شهادة ميلاد الحزب الفعلية.
المؤتمر الوطني الأول لحزب التقدم والاشتراكية 1974: وهو المؤتمر الذي عرف تغيير اسم الحزب من “الحزب الشيوعي المغربي” إلى “حزب التقدم والاشتراكية”.
المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية 1975: في هذا المؤتمر أعلن المؤتمرون انشقاقهم عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. يُعتبر هذا المؤتمر نقطة تحول حاسمة في تاريخ الحزب بقيادة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، حيث تم فيه التخلي عن “الخيار الثوري” وتبني “خيار النضال الديمقراطي”، والانضمام إلى الأممية الاشتراكية.
المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال 1982: عرف هذا المؤتمر صراعا قويا بين تيارات داخل الحزب، خاصة بين الجناح المحافظ والجناح التقدمي. وعرف المؤتمر محاولة إعادة تجديد الحزب وتكييفه مع التحولات السياسية والاجتماعية التي كانت تعرفها البلاد في تلك الفترة، خصوصا بعد أحداث الدار البيضاء سنة 1981 التي عرفت انتفاضة شعبية ضد الزيادة في الأسعار. وهو المؤتمر الذي شهد صعود امحمد بوستة رحمه الله كأمين عام للحزب، خلفا لمحمد الفاسي.
المؤتمر الاستثنائي لحزب التقدم والاشتراكية 1995: هو أهم مؤتمر في تاريخ حزب التقدم والاشتراكية، وذلك لأنه شكّل نقطة تحول استراتيجية في مسار الحزب على عدة مستويات: • تغيير الاسم والهوية: تم خلاله تأكيد الانفصال الرمزي والسياسي عن المرجعية الشيوعية الصارمة. الحزب بدأ يتجه نحو هوية اشتراكية ديمقراطية معتدلة، مستجيبا للتحولات الوطنية والدولية بعد سقوط المعسكر الشرقي • تكييف الخطاب السياسي: تم تجاوز الخطاب الإيديولوجي الجامد، واعتماد خطاب أكثر واقعية ومرونة، يركز على الديمقراطية، التنمية، العدالة الاجتماعية، والحداثة • التمهيد للمشاركة الحكومية: المؤتمر مهد الطريق أمام الحزب للمشاركة لاحقًا في حكومة التناوب سنة 1998 بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، وهو ما اعتبر نقلة نوعية في مسار الحزب من المعارضة إلى التدبير الحكومي • إبراز قيادات جديدة: بداية بروز جيل جديد من القيادات داخل الحزب، مثل إسماعيل العلوي، الذي قاد الحزب لاحقًا، وبعده نبيل بنعبد الله.
المؤتمر الرابع لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية 1998: خلال هذا المؤتمر الرابع للحزب، تم تغيير اسم الحزب رسميا إلى “حزب العدالة والتنمية”، وهو ما يمثل ميلاد الحزب بشكله الحالي وهويته ذات المرجعية الإسلامية الإصلاحية.
المؤتمر التاسع لحزب العدالة والتنمية 2025: يمكن اعتبار المؤتمر القادم لحزب العدالة والتنمية من بين المؤتمرات المهمة في تاريخ المؤتمرات الوطنية للأحزاب الكبرى في المغرب حتى قبل انعقاده. وذلك نظرا للشروط المحيطة بالظرفية التي ينعقد فيها المؤتمر داخليا وخارجيا، وكذلك كون المؤتمر يخص حزبا استطاع قيادة الحكومة لولايتين متتابعتين في سابقة هي الأولى في المملكة المغربية.
كما يستأثر هذا المؤتمر باهتمام كبير لأن حزب العدالة والتنمية يحمل فكرا إصلاحيا، ويتبنى خيار النضال الديمقراطي، ويزخر بطاقات تناضل من أجل هذا الفكر الإصلاحي. ومن المنتظر أن يعرف المؤتمر القادم نقاشا كبيرا قد يكون حادا في بعض القضايا، لكن الديمقراطية الداخلية التي يتميز بها الحزب، تشكل قوته الداخلية، وصمام أمان لعبور المؤتمر إلى بر الأمان.
ومن بين المميزات التي يتميز بها الحزب والتي تزيد من اهتمام الرأي العام به، اعتماد مبدأ التَّرْشِيح وليس التَّرَشُّح. فمنصب الأمين العام للحزب لا يترشح له أي من أعضاء الحزب، بل إن المؤتمرين هم من يختارون الأمين العام عبر ثلاثة مراحل: التصويت لإفراز أسماء تحظى بأكثر من 10% من أصوات أعضاء المؤتمر-التداول في الأسماء المقترحة، وهي خاصية يتمتع بها الحزب، لأنها تفتح المجال للنقاش حول كفاءة الأسماء المقترحة وقدرتها على تدبير المرحلة بعيدا عن إثارة الأمور الشخصية. هذا التداول يسمح بإنضاج الأفكار وتكوين القناعات لدى كل أعضاء المؤتمر قبل المرور للمرحلة الثالثة والحاسمة باختيار الأمين العام الجديد عبر التصويت السري.
هذه الآليات الديمقراطية والمتسمة بالشفافية، تجعل مقولة “المؤتمر سيد نفسه” واقعا يلمسه الرأي العام وليس شعارا للاستهلاك الإعلامي فقط. هذه الحقيقة تجعل المتتبع السياسي والرأي العام عموما، لا يعرف مُخرجات المؤتمر إلا بعد انتهاء أشغاله، وهو ما يزيد من جرعة التشويق، لتزداد معها اهتمام الساحة السياسية أكثر بالمؤتمر.
كما أن هذه الآليات الملتزمة بالشفافية والديمقراطية، تساهم في تقوية الوحدة الداخلية للحزب، وتعزز الرقي في الحوار والنقاش، وتعكس النضج السياسي في تدبير الخلافات. فمن خلال الحوار والتفاعل بين مختلف الآراء الموجودة داخل الحزب، يمكن تجاوز الخلافات وتوحيد الصفوف حول الأهداف المشتركة. لذلك يعرف الرأي العام المهتم بمؤتمر حزب العدالة والتنمية، أنه سيتابع نقاشا كبيرا وعميقا، وسلوكا سياسيا حضاريا وناضجا. سيشاهد مؤتمرا بعيدا عن تلك المشاهد التي تتبعها الرأي العام في مؤتمرات حزبية أخرى حيث مشاهد العراك بالأيادي، والتراشق بالصحون، وانتظار التعليمات قبل الشروع في التصويت، وغيرها من المشاهد التي تؤثر سلبا على الحياة الحزبية.
إن الشعور بالمشاركة في صنع القرار، الذي يوفره المؤتمر، يساهم بشكل كبير في تعزيز التماسك الحزبي والقدرة على مواجهة التحديات المشتركة. هذا كله يجعل المتتبع السياسي والحزبي في انتظار أن يشاهد مؤتمرا يمارس السياسة بمنطق نبيل وأسلوب راقي، وهو ما يزيد مرة أخرى من اهتمام الرأي العام بهذا المؤتمر.
في الختام، يمكن القول بأن المؤتمر الوطني ليس مجرد محطة روتينية في حياة الحزب السياسي، بل هو حدث محوري واستراتيجي يكتسي أهمية قصوى في تاريخه ومستقبله. إنه منبر للديمقراطية الداخلية، ومنصة لتحديث البرامج، وآلية لتعبئة المناضلين، وأداة للتكيف مع التحولات، ووسيلة لتعزيز الشرعية الشعبية. إن الأحزاب السياسية التي تولي مؤتمراتها الوطنية العناية اللازمة وتستثمر فيها بفعالية تكون أكثر قدرة على البقاء قوية ومؤثرة وقادرة على تحقيق أهدافها في خدمة المجتمع والوطن.