حوارات

المدرسة في مواجهة العنف: حوار مع المختص الاجتماعي رضا البوكيلي

حاوره : منصف الادريسي الخمليشي

قم للمعلم وفه التبجيلا، خير ما نفتتح به حوارانا حول “ترند” الاعتداء على الأساتذة، يا ترى ما هي أبرز الاسباب المؤدية لهذا الشكل البدائي؟ من المسؤول ومن هم الشركاء في هذه الظاهرة، و ما أبرز حلولها؟
للحديث عن هذا الموضوع حاورنا المختص الاجتماعي الأستاذ رضا البوكيلي عن المديرية الإقليمية لمدينة فاس.

قبل كل شيء، شكرا على الاستضافة، بصفتي مختصًا اجتماعيًا بمؤسسة ثانوية إعدادية، سأحاول أن أقدم تقييمي وتحليلي لهذه القضية الهامة التي تلامس صميم عملنا اليومي، وتشكل تحديا لمجتمعنا.

1. كيف تقيّمون علاقة التلميذ بالمؤسسة التعليمية في السابق مقارنة باليوم؟

بداية، ينبغي التذكير أن العلاقة التاريخية بين التلميذ والمؤسسة التعليمية كانت تتسم بقدر كبير من الاحترام والتقدير، أو لنقل كان التلميذ “يُوقِّر” المؤسسة وأطرها.
كما يمكن أن نعتبر علاقته بالتعليم عمودية، قائمة على أسلوب التلقين والحفظ، مع صرامة مصحوبة بسياسة “العصا لمن يعصى” لتأديب أي تلميذ انزاح عن الحد المسموح به، معتمدين وسائل ردعية جسدية في بعض الأحيان.
حينها كانت المؤسسة التعليمية تمثل فضاءً مقدسًا للمعرفة، والتلميذ كان يسعى جاهداً للاندماج فيه والامتثال للقواعد والنظام، والمعلم سيد قسمه وصاحب السلطة المعرفية والتأديبية، والمكانة الاعتبارية التي لا يستهان بها في المجتمع، بحيث يتحاشاه التلميذ خارج أسوار المؤسسة، وبمجرد أن يرمقه قادما، يفر من المكان.

أما اليوم، فقد طرأت تحولات جذرية على هذه العلاقة. أصبح أسلوب العملية “تعليمية تعلمية” أكثر تفاعلية وتشجيعًا على النقد والتفكير المستقل، وهذا أمر إيجابي أكيد. لكن في المقابل، نلاحظ تراجعًا في مستوى الانضباط والاحترام تجاه الأطر التربوية والإدارية. لقد أصبحت العلاقة أكثر أفقية، وباتت تتسم بنوع من التجاذب والتصادم بالتدرج وبشكل متصاعد للأسف.

هناك عوامل عديدة ساهمت في هذا التحول، منها الانفتاح على وسائل الإعلام والتواصل خاصة الهدامة منها، وتغير الأدوار الاجتماعية، وتراجع سلطة الأسرة التي يمكن أن نقول “تغلبات وهزات يديها” والمدرسة في بعض الأحيان. كما أن الضغوط النفسية والاجتماعية التي يتعرض لها التلاميذ اليوم قد تكون أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق.

2. . في نظركم، ما الأسباب التي ساهمت في تحوّل بعض التلاميذ من متعلمين غايتهم طلب العلم إلى ذوي سلوكيات عنيفة تصل حدّ الجريمة أحيانًا؟

يمكن أن نشير في هذا الباب، إلى عدة عوامل نفسية واجتماعية تساهم في تحول بعض التلاميذ من متعلمين غايتهم التعلم والارتقاء بذواتهم قيميا ومعرفيا، إلى اقتراف سلوكيات عنيفة، تخلف آثارا بليغة نفسية وجسدية، وقد تفضي إلى الوفاة كما حدث مع فقيدة أرفود تغمدها الله بواسع رحمته.
ومن أبرز هذه العوامل:

أولا، التفكك الأسري: غياب الدفء الأسري، الخلافات المستمرة بين الوالدين، ارتفاع معدلات الطلاق، العنف المنزلي، وغيرها من للعوامل.. تخلق بيئة غير مستقرة، تؤثر سلبًا على التكوين النفسي للتلميذ وتدفعه نحو العنف كرد فعل أو تعويض عن النقص العاطفي.

ثانيا، الضغوط الاجتماعية والاقتصادية: الفقر، البطالة، التهميش الاجتماعي، وغيرها.. عوامل تولد الإحباط واليأس لدى التلاميذ، وقد تدفعهم نحو سلوكيات منحرفة كوسيلة للتعبير عن غضبهم..

ثالثا، التأثير السلبي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي: يمكن أن نذكر، التعرض لمحتوى عنيف عبر الإنترنت أو ألعاب الفيديو، مجموعات “الطرولات” والسخرية التي تشيد بهذه الأحداث المؤسفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الإعلام الذي يتعاطى بسلبية مع المواضيع المتعلقة بأدوار الأساتذة وتدخلاتهم، والتداول اليومي للبيانات التضامنية مع الأساتذة ضحايا الاعتداء دون وجود تدخل زجري في حق المعتدين .. من شأنها أن تؤثر على قيم وسلوكيات التلاميذ وتدفعهم لتبني العنف عوض الحوار.

رابعا، مشاكل مرتبطة بالصحة النفسية والذهنية: بعض التلاميذ قد يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، القلق، أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، اضطرابات وصعوبات التعلم.. بالإضافة لانتشار المؤثرات العقلية، كلها عوامل تعزز السلوكيات عدوانية وقد تؤدي لظهورها، إذا لم يتم تشخيصها وعلاجها بشكل مناسب..

خامسا، غياب النماذج الإيجابية والقدوات الحسنة: للأسف باتت القدوة الحسنة صعبة الانتشار والتسويق، فأغلب الشباب في حاجة لنماذج إيجابية في محيطهم الأسري والاجتماعي، للتغطية على النماذج الفاشلة والسلبية التي باتت تطفوا على السطح ويروج لها صباح مساء، مما يجعل تأثرهم بها واقعا ملموسا، وبالتالي يتبنون سلوكيات سلبية وعنيفة.

سادسا، التنمر والعنف المدرسي: هنا نجد أن التعرض للتنمر أو العنف داخل المؤسسة التعليمية، يخلق لدى التلميذ شعورًا بالظلم والرغبة في الانتقام، مما قد يدفعه لممارسة العنف بدوره، وأحيانا يوجهه لأشخاص أبرياء لا دخل لهم.

3. ما تعليقكم على تكرار حالات تعنيف الأطر التربوية داخل المؤسسات التعليمية؟ وهل ترون أنها ظاهرة أم مجرد حالات معزولة؟:

إن تكرار حالات تعنيف الأطر التربوية والإدارية داخل المؤسسات التعليمية أمر مقلق للغاية، يدق ناقوس الخطر، ويجعل من التدخل لوقف هذه الأزمة أمرا مستعجلا. ولا أعتقد أنها ستشهد انخفاضا في الأيام القادمة، بدون وجود تدخلات عاجلة وناجعة.
إذ لا يمكن اعتبار هذه الحالات مجرد وقائع معزولة، بل يبدو أنها تشكل ظاهرة بدأت تتفاقم في مجتمعنا، وهو أمر ملحوظ منذ بداية الموسم الدراسي الحالي.
وأؤكد، هذا العنف الذي يمس بشكل مباشر كرامة الأساتذة والأطر المختصة والإداريين سيخلق بيئة غير آمنة وغير محفزة للعملية التعليمية برمتها، ويجعل الممارسين متوجسين خيفة مما قد يقع في أي لحظة، وعوض أن تتجه جهودهم للتعليم والتربية، ستتجه لحماية ذواتهم قبل كل شيء.
لذا يجب أن نتوقف بجدية عند هذه الظاهرة ونبحث عن أسبابها العميقة ونتخذ الإجراءات اللازمة لمواجهتها، فالظاهرة أكبر مما نعتقد جميعا، لكن الخجل والإحراج والخوف.. حتما يمنع عدد من الأساتذة من التصريح بتعرضهم للعنف.
واسمحلي أن أضيف أيضا، هناك توجه عام حاليا، نابع من السخط والغضب على ما آل إليه الوضع، يرفض التسامح مع الأشخاص الذين صدر عنهم العنف، تحت أي مبرر سواء كان “المسؤولية الناقصة” أو “ضحايا المجتمع”، يتجلى في رفض مذكرة “البستنة” ويدعو لإعادة الطرد والفصل. بل ويطالب بالزجر قانونيا، لعله تجلى في التداول الواسع الذي شهده مقطع فيديو فرنسي (حول العقوبات المحتمل أن يواجهها تلميذ يبلغ من العمر 13 سنة من سجن وغرامات..).

4. من موقعكم كمختص اجتماعي، ما المقترحات أو الحلول العملية التي ترونها كفيلة بالحد من هذه الظاهرة؟:

أرى أن الحد من ظاهرة العنف في المؤسسات التعليمية يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، من خلال التركيز على الوقاية والتحسيس وكذا التعاطي الجاد مع المسألة من الناحية القانونية، وتفعيل الأدوار المشتركة:

– بتعزيز دور المختصين الاجتماعيين في المؤسسات التعليمية: من خلال توفير العدد الكافي من المختصين المؤهلين، وتزويدهم بالوسائل والمعدات اللازمة للقيام بأدوارهم، وتوفير المكاتب والتجهيزات. لتقديم التدخلات بفعالية ونجاعة.

– من خلال تعديل المناهج وتفعيل برامج النوادي وخلايا اليقظة: عبر بث قيم المواطنة وحقوق الإنسان والعمل على تخليق المؤسسات وتعزيز مفهوم القدوات، وتجويد الحياة المدرسية، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للتلاميذ قبل أن ينفجر الوضع.

– تعزيز التواصل والشراكات: بين مختلف مكونات المجتمع المدرسي (تلاميذ، أولياء الأمور، الأطر التربوية والإدارية..) ، وإشراك مختلف المؤسسات المعنية بالسياسات التربوية، والبحث عن فاعلين خارجيين لتقديم الدعم من أخصائيين في المجال النفسي والاجتماعي والتربوي وخبراء جمعويين.

– إطلاق حملات تواصلية عبر التراب الوطني: لتوعية التلاميذ والأسر والمجتمع بأخطار العنف، وأهمية احترام الأطر التربوية ودورها في المجتمع. بالتركيز على الشق النفسي والاجتماعي والقانوني، وكذا إشراك وسائل الإعلام لإعادة بث الصورة الإيجابية للأستاذ، فالإعلام سلاح قوي جدا ومؤثر، وكما يهدم الكثير -عبر برامج السخرية، وترويج العنف- يمكنه أن يبني.

– تعزيز التعاون بين وزارة التربية الوطنية ووزارة الداخلية ووزارة العدل: يجب وضع آليات للتنسيق والتعاون في التعامل مع حالات العنف والجريمة التي يرتكبها التلاميذ، أو البثوث والمنشورات والأعمال “الفنية” الداعية والمحرضة على المس بكرامة الأساتذة والأطر وبث العنف في المجتمع، والسعي لتطبيق القانون بحزم.

– توفير الدعم النفسي والاجتماعي لضحايا العنف: فكما تعلمون للعنف آثار بالغة، لذا يجب احتواء هؤلاء الأطر لتجاوز هذه التجارب، ومؤازرتهم في محنتهم الناجمة عن صرامتهم ورغبتهم الجادة في أداء مهامهم، عوض الإنزواء..

5. . انطلاقا من تجربتكم الخاصة، كيف تواجهون هذه “الأزمة” كما وصفتموها؟

بالنسبة لتجربتنا المتواضعة لمواجهة هذه الأزمة، عملنا رفقة مجموعة من الأطر التربوية والإدارية وبحضور جمعية الآباء، على تكثيف الحملات التواصلية والتحسيسية عن قرب (عروض، توزيع مطويات، جولات بشكل متكرر..) تنظيم جلسات استماع وانصات لفائدة التلاميذ.
وعلى مستوى تنشيط الحياة المدرسية، عملنا على تقديم برنامج تربوي فريد من تسع حصص أسميناه “بهم فاقتدوا”، يركز على تخليق المؤسسات عبر تقديم نماذج يقتدى بها في جميع المجالات، وبالتالي التأسي بأخلاقهم، واقتفاء آثارهم.
بالإضافة، إلى تنظيم دوري رياضي لتعزيز قيمة التسامح ونبذ العنف.
وكذا مجموعة من الأنشطة التي أنجزت ضد العنف والتنمر وأخرى لتعزيز المهارات الحياتية، ومبادرات أخرى قادمة إن شاء الله.

شكرا على هذه الإضاءات، التي سعينا خلفها لنعالج هذا الموضوع من مختلف جوانبه، لعل وعسى أن نجد آذانا صاغية. كلمة أخيرة أستاذي الكريم.

اسمحوا لي أن أذكر أخيرا أن العنف تجاه الأطر التربوية والإدارية والمختصة، لا ينتج حصرا عن التلاميذ، بل وكذا أولياء أمورهم أيضا، وأحيانا غرباء عن المؤسسات التعليمية.
لذا يجب التدخل بشكل مستعجل، للحيلولة دون تطور الظاهرة، ولاستعادة الأمن في المؤسسات التعليمية، وإعادة الدفء للعلاقة بين مكونات المجتمع المدرسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى