
من موقعه الأكاديمي كمتخصص في العلوم السياسية، ينشر الدكتور عبد العالي حامي الدين عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، سلسلة من التدوينات حول وضعية حزب العدالة والتنمية، وأسباب النتائج التي حصل عليها الحزب في انتخابات 8 شتنبر. استعمل حامي الدين آليات التحليل الفكري وأدوات العلوم السياسية، لإعطاء وجهة نظره في كل القضايا المرتبطة بالحزب ونتائج الانتخابات الماضية.
أَعتبر أن حامي الدين، كان موفقا في الكثير من القضايا، وأبدع في تحليل العديد من الأحداث الشائكة. لكن في المقابل، غاب عنه التمييز بين أمرين اثنين:
الأمر الأول: تراجع شعبية الحزب، قبل انتخابات 8 شتنبر. وهو الأمر الذي لمسه مناضلو الحزب، وعبرت عنه صراحة العديد من القيادات في عهد د. سعد الدين العثماني. كما أنه في العلوم السياسية، أمر طبيعي في حياة حزب قاد الحكومة لولايتين متتاليتين. في هذه النقطة، يمكن إدراج كل الآراء والتحاليل التي تفضل بها الدكتور حامي الدين. في هذه النقطة كذلك، يمكن الحديث عن تأثير التطبيع والقنب الهندي والقانون الإطار والقاسم الانتخابي وجمع ثلاث استحقاقات انتخابية في يوم واحد….. لكن هذه الأحداث، إن كان هناك منطق في الانتخابات، تعني تراجع الحزب إلى الرتبة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة أو الخامسة. لو كانت هذه هي نتائج الانتخابات، لكانت تدوينات حامي الدين قيمة مضافة تفسر ما حدث، وتطرح الأسئلة التي ستُغني النقاش. لو كانت هذه هي النتائج، لكان تقييمها على أساس التمييز بين ما هو داخلي وما هو خارجي، منسجم مع طبيعة الواقع والخريطة السياسية الجديدة.
الأمر الثاني: النتائج المعلن عنها في 8 شتنبر 2021، التي وصفها الأستاذ بنكيران بنكبة السقوط من الطابق 17. إنها نتائج مفصولة تماما عن الواقع وعن الأجواء التي مرت فيها الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية. لو كانت هذه النتائج مرتبطة بالواقع، لكان بإمكاننا ملامستها خلال الحملة الانتخابية، وذلك باعتراض سبيل مناضلي الحملة الانتخابية من قبل المواطنين، أو أن يصُدَّ الناخبون عنهم أبواب منازلهم، وأن يطردوهم من أحيائهم وربما يضربونهم بالحجر.
لو حدث هذا خلال الحملة الانتخابية لقلنا إن سقوط الحزب من الطابق 17 كما قال ذ. بنكيران، كان منطقيا، وله ما يبرره في أرض الواقع.
أقول هذا الكلام، بصفتي كنتُ مديرا للحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في المدينة التي ترشح فيها السيد عزيز أخنوش، خلال انتخابات 8 شتنبر 2021. وأؤكد هذا الكلام من خلال ما عاينتُه من تجاوب مع حملتنا، وهو ما كان يفاجئنا ونحن نعلم أننا نمثل حزبا ترأس الحكومة لولايتين متتابعتين، ويُسيِّر المدينة التي نقود فيها الحملة الانتخابية. ففي هذه الظروف، من الطبيعي أن يعترض بعض المواطنين حملتنا الانتخابية، للتعبير عن ضرر لحقهم من قرار حكومي، أو أن المجلس الجماعي للمدينة لم يستجب لبعض مطالبهم.
أقول إن الحملة الانتخابية التي قُدتُها يوميا بكل تفاصيلها، في مواجهة الآلة الانتخابية للسيد عزيز أخنوش، كانت تلقى تعاطفا كبيرا، وكان الناس في الشارع هم من يأتون عندنا لطلب أوراق الحزب وبرنامجه، ويستفسروننا عن بعض الأمور. كنا ندخل للمقاهي ونوزع برنامج الحزب، ويتحاور معنا البعض بكل أريحية، علما أن الحزب هو من يُسيِّر المدينة وقتذاك. وكنا خلال الحملة الانتخابية، مهيئين للتعامل الحكيم مع أي اعتراض لحملتنا أو مواجهة مواطن غاضب من قرار ما.
لكن عكس توقعاتنا، لم يحدث أي شيء من هذا، بل كانت الحملة تمر يوما بعد يوم في جو صحي، وسط احتضان شعبي كان يفاجئنا نحن الذين نعطي وقتا كبيرا للتنظيم والتأطير، قبل أي خروج عند المواطنين. هذا الواقع جعلنا نفكر في القيام بحملة انتخابية داخل سوق الحد، هذا السوق الذي تتفاداه جميع الأحزاب الأخرى. سكان المدينة يعرفون العدد الكبير للجمعيات داخل السوق وهي تكتلات تكاد مطالبها لا تنتهي. الأحزاب السياسية في المدينة تعرف جيدا صعوبة القيام بحملة انتخابية في سوق الحد. لذلك، لم يستطع أي حزب تمديد حملته لتشمل هذا السوق، إلا حزب العدالة والتنمية. وحتى السيد أخنوش لم يقم سوى بزيارة لبضع دقائق لسوق الحد، تفاديا لأي موقف مُحرج له في عز حملته الانتخابية.
هنا أتحدث بكل صدق، لأني كنتُ حاضرا في الميدان، وشاهدتُ هذا الواقع بأمي عيني، والله شاهد على ما أقول.
سوق الحد الذي يُعتبر باروميتر الأحزاب في مدينة أكادير، لم يستطع السيد أخنوش خلال حملته الانتخابية، أن يقضي فيه سوى بضعة دقائق، كانت مرتبة بعناية، لأخذ بعض الصور لترويجها إعلاميا، خوفا من تعرضه للاحتجاجات.
هذا السوق، قمتُ شخصيا بقيادة الحملة الانتخابية فيه، رفقة العشرات من المناضلين بأعلام الحزب وتيشورت الحزب وقبعة الحزب، واستعملنا الصوتيات الخاصة بأناشيد حزب العدالة والتنمية. كان بإمكاننا الاقتصار على مرور سريع داخل السوق كما فعل السيد أخنوش، لكن التطور الإيجابي الذي تعرفه حملتنا الانتخابية، شجعنا على المضي قدما في هذه المغامرة الخطيرة سياسيا.
قضينا أكثر من ساعتين نوزع المناشير ونتحدث لتجار السوق وللمتسوقين. كنا شديدي الحرص لأننا نعلم جيدا صعوبة الحملة الانتخابية في هذا السوق الأكبر في إفريقيا. لكننا اكتشفنا أن تخوفنا لم يكن في محله، بحكم تجاوب التجار معنا والزوار كذلك. كان بعض التجار يفتحون معنا نقاشا حول مطالبهم وعتاباتهم، وكان التواصل يمر بسلاسة وتفهم. حِرصُنا الشديد وتخوفُنا الكبير من هذه المغامرة، جعلنا نتفاجأ لما لقيناه من تفاعل إيجابي مع حملتنا.
بكل صدق مرة أخرى، أقول إننا وجدنا ترحيبا لم نكن ننتظره من التجار والمتسوقين على حد سواء.
ولا حزب في أكادير استطاع أن يقوم بحملة مشابهة لحزب العدالة والتنمية في هذا السوق المليء بالمطالب اللامتناهية وبالتناقضات.
بطبيعة الحال، هذه الحملة الناجحة في سوق الحد والتي لم يستطع أي حزب آخر القيام بمثلها، جعلت البعض، يَجمعون بعض الأطفال للتغطية على نجاح الحملة ونشر فيديوهات لمناوشات مصطنعة. لكن أشرطتهم التي حاولوا نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، فضحتهم حين اتضح للرأي العام المحلي أن تلك المناوشات المصطنعة حضرها أطفال ولم يكن من بينهم ولا تاجر واحد أو زائر واحد للسوق. حدث ذلك بعد نهاية حملتنا الانتخابية التي دامت أكثر من ساعتين، وحين خروجنا من الباب الرئيسي للسوق.
حاول هذا البعض خلق مناوشات وتشابك بالأيدي باستفزاز مناضلي الحزب، لكن التأطير الجيد الذي استفاد منه هؤلاء المناضلون، والإحاطة اليومية (Briefing quotidien) التي كانوا يتلقونها قبل الخروج في الحملة الانتخابية، فوَّت على هؤلاء محاولات التشويش بخلق عراك قد ينتج عنه دم أو إصابة، لتتحرك الآلة الإعلامية “المشرية والمسخرة”. لكن فطنة مناضلي الحزب وتعاملهم ببرودة دم وبحكمة حزب حقيقي يحرص على تأطير المواطنين حسب المقتضيات الدستورية، فَوَّت عليهم فرصة إفشال الحملة الانتخابية داخل سوق الحد، التي أمضت أكثر من ساعتين، وهو ما لم يستطع القيام به أي حزب آخر.
ما وقفتُ عليه كذلك خلال الحملة الانتخابية، كان في حي وسط أكادير. ونحن في حملتنا الانتخابية داخل الحي، تقدم عندي ثلاثة شبان يبدو من كلامهم أنهم يدْرُسون في الجامعة. واستغربت حين قال لي أحدهم “نتا كايبان عليك مثقف وفاهم مزيان السياسة، غير بغيت نقول ليك، لبارح جاوا صحاب واحد الحزب، وفرقوا على الدرب كولو 200 درهم، وراه غير كاتضيع وقتك معا هم”.
مشهد آخر وقفتُ عليه في الحملة الانتخابية. ذات يوم قمنا بحملة انتخابية بواسطة دراجات هوائية استأجرناها وزودناها برايات الحزب. كان الهدف إعطاء رسالة لساكنة أكادير تخص الحفاظ على البيئة، ورسالة أخرى للشباب في المدينة بخصوص السياقة في احترام تام لقوانين السير وبمسؤولية تامة. قبل الانطلاق كان موضوع الإحاطة (Briefing) هو الاحترام التام لممرات السير. أكادير تعرف حينها توسيع شوارعها لجعلها تستوعب ممرات خاصة بالراجلين وأخرى خاصة بالدراجات من عجلتين. وكان حرصنا الشديد بأن نسير بحوالي 20 دراجة واحدة وراء الأخرى دون الاخلال بقانون السير. الرايات التي تحمل شعار الحزب المتثبتة في الدراجات، تجعلنا نتحمل مسؤولية سياسية كبيرة.
وكانت مفاجأتنا كبيرة حين التقينا في أحد الشوارع بحملة حزب الحمامة يقودون هم أيضا دراجات هوائية. كانت تلك الدراجات من النوع الرفيع ومصبوغة بلون وشعار الحزب. لكنها دراجات أُسندت لشباب يلعب في الشارع ويلهو بالدراجة وكأنه لا يعرف أنه في حملة انتخابية وعليه الانضباط لأنه يعكس صورة الحزب. امتلأ الشارع بمنبهات السيارات التي تستنكر تلك السياقة الاستعراضية، وتُعرِّض صاحبها للمخاطر.
وأنا أتأمل فيما أشاهده، تبادرت إلى ذهني الكثير من الأسئلة حول دور بعض الأحزاب في الساحة السياسية، ومدى قدرتها على تأطير المواطنين.
ختاما وبصفتي كنتُ مديرا للحملة الانتخابية في المدينة التي ترشح فيها السيد أخنوش، أقول إن ما شاهدناه من تعاطف وإقبال للساكنة السوسية على حملتنا، لا علاقة له بشكل قطعي مع النتائج المُعلنة. وحين أستحضر الأجواء التي مرت فيها الحملة التي عشتُ تفاصيلها لحظة بلحظة، وأضعها مقابل النتائج المعلنة، فإن عقلي يظل عاجزا عن فهم هذه النتائج.