رأي

الدروس الوعظية في السياسة الشرعية: إدارة الأموال وخدمة العباد.

بقلم محمد كندولة

ولنبدأ بحاجات الناس ، فنقول إذا دخل الواعظ السياسي على مسؤول في مكتبه ، أو استدعاه ليسمع منه نصيحة أو توجيها ، أو ليستشيره في نازلة من النوازل ، أو التقاه في مكان محترم ،في وقت هو عند الناس معظما ، وطلب منه موعظة ، فليبدأ معه الحديث بضرورة إصلاح نفسه لأنه كالزمان إن صلح ، صلح الناس ،وإن فسد ، فسد الناس ، ولينصحه بكظم الغيظ ، والسيطرة على نوازع الغضب مع التمسك بسجايا الحلم، و العفو، وهذا لا يكون إلا بتزكية النفس بقراءة القرآن الكريم ، ومجالسة العلماء الربانيين غير الطامعين و الانتهازيين .
ثم ينتقل به الى تذكيره بالاهتمام بالناس كافة ، الذين حملوه المسؤولية ، ووضعوا فيه الثقة ، فينبغي أن يتابع أحوالهم ، وينظر في مصالحهم ، مع ضرورة الإحسان إليهم بعدم التفريق بينهم ، سواء كانوا أحرارا أو عبيدا ، صغارا أو كبارا ، فقراء أو أغنياء ، جهلاء أو علماء ، لأن الإحسان مرتبة قصوى في الإيمان ، وهو في السياسة أفضل و أنجع ، فانتهاج سياسة الاحتجاب والغياب والتواري ، مؤذية للناس ، فلابد من الظهور لهم ، و تسهيل معاملاتهم بسياسة أخرى هي ضدها أي سياسة الباب المفتوح ، و الوجه الطلق البشوش .
كما يجب على الواعظ السياسي أن ينبه المسؤولين إلى حسن اختيار الخواص و الموظفين ليساعدوه في تسيير المهمات ، وتدبير الأعمال ، فلا يولين أقاربه دون النظر إلى كفاءتهم وخبرتهم ، فمن استعمل صغار الرجال في كبار الأعمال ضيع الناس ومن بعدهم من الأجيال .
ولما كان العدل شوق العامة و الخاصة ، فإن تحقيقه بين الناس أفيد لهم ، والله سبحانه وتعالى يزكيه بالغيث و الخصب و الخير العميم ،ولما كان الظلم مكرهة للناس ، فإن تحليله بينهم أضيع لهم ، فالله سبحانه و تعالى يستبدل الخصب بالقحط ، والغيث بالجفاف والخير بالشر العميم ، خاصة و أن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرما ،فلهذا لا ينبغي للمسؤول أن يتجسس على الناس ، فيكشف عيوبهم ظلما ، وأن لا يسمع للواشين من الفسقة الظالمين ، بل وجب عليه المراقبة الحسنة بما يحقق الأمن و الأمان للبلاد و العباد .
كما وجب على الواعظ السياسي أن يستتبع ذلك بالتنيه إلى إقامة العدل بين الناس بضرورة تطبيق الحدود و الأحكام و القوانين ،بالعدل و التساوي ، وعدم تعطيلها بالوساطات و الشفاعات ، فالتطبيق وجب ان يكون بدون زيادة و لا نقصان .
ومن الدروس الوعظية التي يجب على الواعظ ان يتقن التحدث عنها فقه الاموال جباية و صرفا ،
مذكرا بمواصفات من يحرس العام
في البداية ، متخذا من إصلاح السياسات الخمس دروسا للتعليم و التذكير ، وهي سياسة الدعوة ، وسياسة الحكم ، وسياسة المال ، وسياسة المجتمع ، وسياسة السلم و الحرب، فإذا كان الواعظ الكلاسيكي قد اتخذ من غير هذه السياسات مواضيع كلامه و توجيهاته ، فإن الواعظ المقاصدي الذي يعنى بالمساهمة في حفظ الضروريات الخمس: الدين و العقل و النفس و المال و العرض، يتخذ من القواعد الفقهية و الأصولية منهجا لبناء خطاب متزن لا حظ فيه للنفس ، ولا مجاملة فيه لكبير أو نافذ . فيحدث الناس عن مواصفات المكلفين بجباية الأموال وصرفها ، والمأمورين بحفظها بالاستثمار وحسن التوزيع على الأفراد والجماعات، و الأقاليم و الجهات، لأن خريطة الهشاشة و الفقر متباينة و مختلفة.
وليبدأ حديثه في هذا الموضوع عن الرقابة الذاتية المتصلة بالتربية الأسرية مع التذكير بمسؤولية الأبوين في إعداد الرجل الصالح المصلح القادر على حفظ الأمانات والعقود و العهود ، ومنها حفظ المال العام من التبذير و التقتير و الإفساد ، وهذا يستلزم من المحافظ المالي أن تتوفر فيه شروطا كالتقوى وحسن السيرة ، لا يتبع هوى ، ولا يضيع درهما.
وليذكرهم أن عمل رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الراشدين من بعده كانوا لا يسندون الوظائف المالية إلا لمن اكتمل فيه الصلاح و الكفاءة و الأمانة ، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله». ”
ويقول ابن تيمية :” فمن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهم، أو ولاء ، أو صداقة ،أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس أو لرشوة يأخذها منه ومنفعة ، أو لضعف في قلب على الأحق، أو عداوة بينهما فقد خان الله و رسوله و المؤمنين ”
وكان صلى الله عليه وسلم والصحابة الراشدون من بعده لا يقدمون من طلب المسؤولية شعارهم :”إنا لا نولي أمرنا هذا لمن طلبه”
وليذكرهم كذلك أن الصفات المطلوبة في المهتم بالشأن المالي :
1. القوة و الأمانة : قال تعالى على لسان بنت شعيب عليه السلام في استعمال سيدنا موسى عليه السلام : ” يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين”
ومعنى القوة : القوة الجسدية و المعنوية و المعرفية.
ومن مدلولات الأمانة : الكفاءة الأخلاقية ، لأن المال و النقود يغيران النفوس و يضعفانها.
2. الحفظ و العلم : يقول الله سبحانه و تعالى على لسان يوسف عليه السلام عندما مكن له عند ملك مصر ،” اجعلني على خزائن الأرض فإني حفيظ عليم”
يقول صاحب كتاب الخراج ناصحا الخليفة هارون الرشيد :” ورأيت أن تتخذ قوما من الصلاح و الدين و الأمانة ، ومن وليت منهم فليكن فقيها عالما مشاورا لأهل الرأي ، عفيفا لا يطلع الناس منه على عورة و لا يخاف في الله لومة لائم ، فإن لم يكن عدلا أمينا فلا يؤتمن على مال المسلمين ”
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى يهود خيبر ليخرص عليهم في ثمارهم بتقدير الغلة وأخذ النصيب ، وحاول اليهود أن يرشوه ليتغاضى عنهم في مقدار ما يؤخذ منهم ، فقال لهم تطعمونني السحت ، والله قد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس إلي ، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه ألا أعدل بينكم ، فقالوا :بهذا قامت السموات و الأرض ”
جاء ابو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما فقال له :” دنست أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال له عمر : يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين ، فقال ابو عبيدة : فإن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة ” أي أجزل لهم العطاء و الرزق فلا يحتاجون ويمدون أيديهم إلى ما ائتمنوا عليه .
ونختم بقول امامنا مالك رحمه الله :” لا أحب أن ينزل السعاة عند أهل الماشية ، ولا يعيرهم دوابا خيفة التهمة لكي يخففوا عنهم “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى