الإنسانية بين موت الإله وحياته! مركزية الأخلاق في الحياة الإنسانية.. ماذا خسرت الإنسانية حين فقدت أخلاقها؟
بقلم: قاسم علوش

قضية الأخلاق قضية مركزية في حياة الإنسان. وكل هذا السقوط في المنحدر الذي تعيشه البشرية في وقتنا الحاضر مرده إلى سيطرة الفلسفات الغربية المادية والإلحادية، التي فرضت هيمنتها على التفكير الإنساني منذ القرن الثامن عشر. وهي الفلسفات التي انصبت نظرياتها على فصل مجالات العلوم والسياسة والاقتصاد والاجتماع…الخ عن منظومة الأخلاق. وقد نتج عن ذلك الفصل الرهيب سيادة مبدأ: ((الغاية تبرر الوسيلة)). فكان ما يلي:
1- على المستوى الفلسفي والإنساني، لقد عبرت مقولة الفيلسوف الألماني العدمي ((فريدريك نيتشه)): “مات الإله “، (فريديك نيتشه،2007، “هكذا تكلم زرادشت”، طبعة 1 لمنشورات الجمل، كولونيا-ألمانيا)، عن ذلك الانقلاب الدراماتيكي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية والغربية على المستوى القيمي والأخلاقي منذ بداية القرن الثامن عشر وإلى وقتنا الحاضر. سعى ((نيتشه)) في كتابه إلى عرض فكرته الأساسية، وبأسلوب بهلواني يعتمد السخرية كما صرح هو بذلك، المتمثلة في ضرورة التخلص من فكرة وجود الإله من حياة الناس، وأن النظام الأخلاقي المرتبط بها ليس سوى أكبر خطأ وقع فيه الإنسان عبر تاريخه. وهو يعني بذلك أن إله الكنيسة قد مات وانتهى زمانه، وأن البشرية لم تعد في حاجة إليه، ولا إلى تعاليمه الأخلاقية، وبالتالي عليها أن تبني حياتها المستقبلية وفق فلسفة جديدة تمجد الإنسان (في ولادته الجديدة) وحده وما حوله من العالم المادي.
كان إعلان ((نيتشه)) ذلك علامة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، الذي سيخط، بناء على فلسفة نيتشه، مسارا جديدا وبعيدا عن المنظومة الأخلاقية المرتبطة بوجود الإله التي كانت سائدة في المجتمعات الغربية، والعمل على بناء منظومة أخلاقية جديدة تدور حول المادة وارتباطاتها الغرائزية (المبنية على اللذة والشهوة)، كما سيعكس لنا، ذلك الإعلان، نتيجة الصراع الطويل مع الكنيسة الذي انتهى بإخراج الدين من الحياة (كانت أبرز تجلياته انتصار الثورة الفرنسية عام 1789م)، وفصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية التي تم حجزها داخل أسوار الكنيسة. كما تعكس لنا فلسفة ((نيتشه)) العدمية، في الواقع، كيف قطع الفكر الفلسفي الغربي صلته بالإله والأخلاق ودخل مرحلة الفلسفة المادية (الوضعية)، التي تؤمن بعلو العقل والمادة (وما يتصل بهما) عما سواهما. وعلى هذا الأساس تم تعريف الفلسفة المادية بأنها: “المذهب الفلسفي الذي لا يقبل سوى المادة باعتبارها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعة والبشرية)، ومن تم فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إن كان متجاوزا للنظام الطبيعي/المادي” (عبد الوهاب المسيري، 2002، “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان”، ص: 16).
سينعكس هذا الانقلاب في التفكير الفلسفي الغربي، القطع مع الأخلاق وترك الدين جانبا، والإيمان بالمادة فقط وما يتصل بها، على باقي المجالات الاجتماعية، والعلمية، والسياسية، والاقتصادية…الخ. كما سيحدث تغييرات عميقة في البنية القيمية والأخلاقية في المجتمعات الغربية وسيؤدي بها، في نهاية المطاف، إلى القبول بموت الإنسان بعدما قبلت بموت الإله لصالح بقاء المادة أو تأليه المادة. وهي الفلسفة التي ستجر البشرية جمعاء إلى كوارث لا حصر لها على المستوى الإنساني كان أبرزها تخريب الفطرة البشرية بنزع صفة الأخلاق عنها وتغليفها بغلاف المادة السميك، بالرغم ما حققه أصحاب تلك الفلسفة من إنجازات على المستوى المادي والتقني. كل ذلك سيترك آثاره على المجالات التي سنذكرها بعد.
2- على مستوى العلوم والتصنيع العسكري، وقع تنافس وسباق محمومين بين الدول الاستعمارية الغربية، ولحد الآن، على صناعة أحدث الأسلحة الفتاكة والمدمرة، وعلى رأسها الأسلحة النووية والبيولوجية، وانتهاء بالقنابل الذكية واستعمال الذكاء الاصطناعي في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الإنسانية. وقد وظفت لأجل ذلك كل إمكانياتها لإخضاع باقي شعوب العالم ونهب خيراتها. إن الأدلة من التاريخ الحديث على ما نقول كثيرة. انظر مثلا: ما وقع خلال مرحلة التمدد الإمبريالي والغزو الأوروبي لشعوب إفريقيا وأمريكا وآسيا، والقتل والدمار الذي خلفته القوى الاستعمارية بتلك الأسلحة الجديدة التي صنعتها في معاملها الحربية، والآثار المدمرة التي نتجت عن ذلك على الحياة في مختلف مجالاتها البشرية والبيئية. ويا للمفارقة، حين نجد أن تلكم الآثار المدمرة لم تسلم منها حتى الشعوب الأوروبية في عقر دارها (خلال الحربين العالميتين)، بما فيها ما يقع الآن في الحرب الذي تدور بين روسيا وأكرانيا داخل العمق الأوروبي. وقد وصل ذلك مداه وأوجه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية التي راح ضحيتها ما يفوق من مئة وستين مليونا (160000000.00)، بين قتيل وجريح، في فترة زمنية لا تتجاوز 30 سنة، (وقد يكون هذا الرقم يحصي فقط ضحايا الدول المشاركة مباشرة في الحرب دون احتساب ضحايا المستعمرات وباقي مناطق العالم حينها). وبطبيعة الحال فإن ذلك الرقم المفزع من الضحايا لا يشمل ضحايا حروب الإبادة الجماعية التي مارستها القوى الاستعمارية في مستعمراتها الإفريقية، والأمريكية، والآسيوية والتي حتما تعد بعشرات الملايين من الأنفس البشرية.
كما أن المنطقة العربية والإسلامية، لم تكن بمعزل عن ذلك، حيث أخذت نصيبا وافرا من التقتيل والدمار على يد القوى الإمبريالية (غربيها وشرقيها) ولا يزال ذلك مستمر إلى يومنا هذا. والدليل على ذلك واضح أيضا في كل ما يقع على أرض فلسطين المحتلة واليمن، وقبلهما (العراق وأفغانستان). حيث فتحت عليهما (أبواب جهنم) كما يحلو لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية ((دونالد ترامب)) القول هو وربيبه ((بنيامين نتن ياهو)) الصهيوني الإرهابي المتطرف، فقط لأنهما يقفان في مواجهة المشاريع الصهيونية في المنطقة. لذلك لم يبخلا عليهما بالقتل والإبادة والتدمير بآخر ما صنعته مصانع السلاح والذخيرة، الأمريكية والأوروبية، المنفلتة من أي وازع أخلاقي.
3- على مستوى السياسة والعلاقات الدولية، تم تعريتها من كل مبدأ أو قيمة أخلاقية. فصارت كل الوسائل متاحة لتحقيق المنافع، من خداع، وكذب، ونقض للعهود والمواثيق، وتسخير جميع الأعمال القذرة لتوريط الخصوم والمنافسين للقضاء عليهم، بما في ذلك الإيقاع بالأنظمة السياسة للدول وتوريطها بهدف ابتزازها والتحكم في سيادتها والسيطرة على مقدرات شعوبها. كما قد تكون ضحية لذلك حتى المجتمعات والتجمعات البشرية التي لها نفس الانتماءات والقواسم المشتركة إذا كان ذلك سيخدم مصلحة الأنظمة السياسية والمنظمات المتحالفة معها ذات النفوذ الكبير. ومن أبرز الأمثلة على النموذج الأول، تلك السياسات التي انتهجتها ولا تزال تنتهجها القوى الاستعمارية والإمبريالية الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، اتجاه باقي دول العالم. وهنا نستذكر تلك “الفبركات” للتقارير الإعلامية والاستخباراتية التي وظفتها الولايات المتحدة الأمريكية للدعاية لغزو كل من العراق وأفغانستان في بداية الألفية الثالثة. أما مثال النموذج الثاني، فنجده في السياسة التي اتبعتها كل من المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، في بداية القرن العشرين، للسيطرة على أرض فلسطين ((واتخاذها وطنا قوميا لليهود))، وذلك بالتعاون مع الأنظمة الديكتاتورية الفاشية والنظام النازي في ألمانيا، والتي كان من آثارها المحرقة أو ((الهولوكوست)). وقد رشحت مجموعة من الأبحاث والدراسات توثق ذلك التعاون الوثيق الذي تم بين الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والنظام النازي في ألمانيا، الذي كانت من بين نتائجه التضحية بالتجمعات اليهودية (وخاصة اليهود الأرتذوكس، أتباع العقيدة الموسوية، وهم الجماعة المركزية الذين كانوا يطالبون بمنح اليهود حقوقهم كمواطنين ألمان، واندماجهم في مجتمعهم الألماني) التي لا تؤمن بالأفكار الصهيونية، وتنادي بالاندماج في المجتمعات المحلية، وتعارض سياسة الهجرة إلى أرض فلسطين. وتحقيقا لهدفها لتهجير يهود أوروبا إلى أرض فلسطين سعت الصهيونية (في توظيف منها لمعادات السامية) إلى دعم الإجراءات القمعية التي اتخذتها النازية ضد اليهود الألمان، وأيضا ضد اليهود المقيمين في الدول التي خضعت لسيطرة ألمانيا مثل: (بولندا، والمجر) خلال الحرب العالمية الثانية. أنظر على سبيل المثال: (ليني برينر، 1985، “الصهيونية في زمن الديكتاتورية: التاريخ الموثق لعلاقة الصهيونية بالفاشية والنازية، الفصل الثالث وما بعده: ص: 47. ونيرمين سعد الدين إبراهيم، 2008، “صعود النازية بين الحربين”، ص: 71).
4- على مستوى المالي والاقتصادي، تم تبني مختلف الأدوات التي تهدف إلى تمكين الأغنياء من السيطرة على مختلف مصادر الثروة، ووضع يدهم على جميع المقدرات، الظاهرة والباطنة، على حساب الفقراء، وذلك انطلاقا من المجتمعات المحلية وصولا إلى باقي المجتمعات في البلدان الأخرى. ولتحقيق تلكم السيطرة تم نشر التعامل بالربى والفوائد، وبناء النظام المالي والاقتصادي العالمي على أساس ذلك. إضافة إلى تعزيز الاحتكار وشرعنته، وتقنين وتكريس منطق السخرة، وذلك تحت مسميات عدة، وفرضه على الأنظمة والشعوب الفقيرة والمستضعفة. وقد تم تأسيس النظام المالي والبنكي العالميين (البنك العالمي، وصندوق النقد الدولي) للتحكم في الموارد والثروات في جميع أنحاء العالم لصالح القوى الإمبريالية الغربية. لقد كانت لسياسات صندوق النقد الدولي، على وجه الخصوص، في أغلب الدول النامية (ومنها الدول العربية) التي خرجت حديثا من السيطرة الاستعمارية المباشرة، نتائج كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث نجد أن سياسات هذه المؤسسة المالية الدولية تترك الدول أكثر فقرا مما كانت عليه مع ارتفاع الديون وتعاظم الفوائد وزيادة في البطالة والتضخم (أحمد كردش،19/05/2020 ” صندوق النقد الدولي.. مؤسسة للتنمية أم أداة للتبعية”، مقال منشور بموقع الجزيرة نت).
كما أثبتت التجارب أن السياسات التي انتهجها صندوق النقد الدولي بحجة مساعدة الاقتصادات المتعثرة للدول النامية لا تتلاءم مع بيئتها الاقتصادية ومصالحها الذاتية، لهذا فشلت مشاريع التنمية وازدادت المشكلات الاقتصادية والمالية لهذه الدول، كما هو الحال ببلدان أمريكا اللاتينية التي ازدادت نسبة الدين بها إلى 20.3 بالمئة بين سنتي 2010 و2014، الضرائب والبطالة بنسبة 20 بالمئة وانخفاض معدلات نمو اقتصاداتها إلى 1.1 بالمئة سنة 2014، فأهداف الصندوق، وسياساته، وبرامجه تعد تعبيراً واضحاً للهيمنة الاقتصادية للدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وأزمة المكسيك والأرجنتين وغيرها تعد نقاطاً فاصلة في تاريخ الصندوق والتي أكدت ضعف الطابع المؤسسي له وتؤكد خضوعه لإرادة الولايات المتحدة (مكيد علي ووليد فرجاني، 05/10/2022، ” الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي وسبل التحرر منها” مقال منشور على موقع مركز دراسات الوحدة العربية). وبتعبير الباحثين، فإن تلك السياسات هي مقصودة من قبل مؤسسة صندوق النقد الدولي، المتحكم فيها من قبل قوى الهيمنة العالمية بهدف توسيع نطاق الخنق الاقتصادي على الدول التي تقع فريسة الاستدانة منها.
إن المجتمع الإنساني اليوم على مفترق طرق خطير تعبر عنه الأحداث الجارية على أرض فلسطين، وعلى قطاع غزة بالتحديد، بين داعم أو خاضع لمنطق الهيمنة والسيطرة المتجرد من كل نظام أخلاقي أو قيمي إنساني الذي تمثله بشكل صارخ الصهيونية العالمية وكيانها الوظيفي الجاثم على صدر المنطقة العربية في أرض فلسطين، وبين رافض لذلك المنطق من الشعوب الحرة التي اهتز كيانها لما يحدث من فظائع وإبادة لكل رموز الحياة الإنسانية في مختلف صورها. ولن يكون هناك من عاصم للإنسانية من السقوط النهائي في البئر المظلم الذي حفرته لها الفلسفة المادية سوى التمسك بفكرة الإله الحي، التي هي ليست فقط فكرة فلسفية مجردة أو ترف فكري، بل هي تمتد لتنتظم ضمنها جميع مظاهر الحياة الإنسانية والكونية كخيط السبحة الذي إن هو انفرط عقده تساقطت معه جميع حباتها.