تنوير الإخوة والأخوات في ما يتعلق برفع اليدين في الدعاء ومسح الوجه أو الصدر استمطارا للرحمات.
بقلم الشيخ عبد اللطيف بوعلام.

ملحوظة: لطالما كررت على الإخوة والأخوات ملتمسي في عدم ولوج مقالاتي إن رأوا فيها عَنَتاً ومشقة في قراءتها نظرا لطولها المحتِّم في تفصيل بعض الجزئيات الضرورية للإحاطة بالموضوع، واحتجاجهم علي بالاختصار دليل على عدم هَوَسِهِمْ شَغَفاً بالقراءة انتسابا لأمة اقرأ المطالبة بالقراءة دون انقطاع؛ فالرجاء منهم مرة ثانية وأخيرة ألا يقرؤوا مقالاتي التي أنفق فيها الليل بنهاره استبانة وتوضيحا للتثبت من الأمر الخاص بالدين تحريما وتحليلا جوازا أو منعا. آه.
وأقول: لقد وردني سؤال نشبت على إثره مشادات كلامية إلى حد الخصام بين مصليَيْن أحدهما ملتحٍ يدَّعي المعرفة والالتزام بضوابط الإسلام، والآخر مقلِّد تابع لما درج عليه العوام.
حيث أنكر عليه المتسَنٌن رفع يديه داعيا ربه عقب انتهائه من الصلاة موضحا له بِدْعِيَّة قيامه بذلك الفعل، فاتصلت بالمعني بالأمر رأسا برأس بغرض استفساره عن الدليل المانع للرفع، فبادرني بأن ذلك الأمر ( أي الرفع) لا يجوز إلا في دعاء الاستسقاء مستشهدا بحديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه من أنه قال: « كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاسْتِسْقَاءِ»، فقلت له: هل لديك اطلاع شامل بهذا الموضوع أم أنت قد اقتصرت على هذا الحديث دون جرد للأحاديث الأخرى، وإجالة النظر في أقوال العلماء الأجلاء في الجزم بأحاديته في صلاة الاستسقاء، فأجابني بفظاظة: الحديث صحيح، والواجب يقتضي تفعليه وتطبيقه دون نقاش، فما كان مني إلا أن آخذ رقمه لمراسلته لأن المسألة شائكة وتتطلب البحث الشامل للحسم فيها، فكان هذا جوابي عليه سهلا دون الغوص في التفاصيل الواردة عن الفطاحلة الحُفّاظ النحارير كالإمام النووي والسيوطي رحمهما الله اللذين جمعا أحاديث كثيرة تصل إلى مائة وثلاثين حديثا في مشروعية رفع اليدين..
وبعد ديباجة السلام عليه وتمني الهداية لنا جمعا إلى الصواب، قلت له: إن رفع اليدين مِن آداب الدعاء ومِن أسباب الإجابة لورود أحاديثَ كثيرةٍ تدلُّ على مشروعيته، وهي ثابتةٌ مِن أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم بلغت مبلغَ التواتر المعنويِّ.
ونظرا لغزارتها سأذكرك ببعض مِن هذه الأحاديث القولية الثابتة عن علم الهدى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حيث قال: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا». «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 173]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» ومِن الأحاديث الفعلية أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: * رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَياضُ إِبْطِهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ *، وفي حديث أسامة رضي الله عنه: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَسَقَطَ خِطَامُهَا، فَتَنَاوَلَ الخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الأُخْرَى»، وورد عنه فعل ذلك في القنوت. وغيرها مِن الأحاديث الصحيحة.
ومن هذه الأحاديث المتواترة معنًى كذلك الحديث الأوحد الذي أوردتموه عن أنس رضي الله عنه الذي كان مختصا بصلاة الاستسقاء.
وللجمع بينهما توفيقًا بين الأدلَّة أنَّ المنفيَّ في حديث أنسٍ رضي الله عنه هو صفةٌ خاصَّةٌ تشبه الابتهالَ إلى الله تعالى في طلب الغيث الذي انحبس عنهم، فأتت المبالغة فيه حثيثة حتى رُئِي بياضُ إبطيه صلى الله عليه وسلم وهو يجأر إلى ربه طلبا للرحمة، ومِن ثَمَّ فإنَّ نَفْيَ صفةٍ خاصَّةٍ لا يَلزم منه نفيُ أصل الرفع، ومع ذلك فإنَّ هذه الصفة الخاصَّة لم تكن مقتصِرةً على دعاء الاستسقاء فقط، فقد ثبتت كذلك في مواطنَ أخرى طلبا للاستنصار، وعشيَّةَ عرفة.
لكن المنع طال عدم رفعهما في الخطبة، ويؤيِّد ذلك حديثُ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ، قَالَ: رَأَى بِشْرَ ابْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: «قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ».
هذا ما تيسر قوله، إذ أنَّ الأصل في آداب الدعاء وأسباب الإجابة رفعُ اليدين مطلقًا باستثناء ما تم تقييده بعبادةٍ نُقلت صفتُها مجرَّدةً مِن رفع اليدين كالدعاء في الصلاة ليس بعد الانتهاء منها أو في التشهُّد الأخير أو حالَ الخطبة يوم الجمعة وغيرها مِن العبادات الخالية مِن رفع اليدين.
أما قضية مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا شديدا بين مجيز ومانع لها نظرا لضعف الأحاديث الواردة في حقها، ومنها ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه }.
واختلف في بسط اليد ولا بأس منه لأنه أمارة الذل والسكينة ويستحب أن يمسح وجهه بيديه عقبه كما كان يفعله عليه الصلاة والسلام.
وفي الفواكه الدواني برقم 1/281: (ويرفع يديه في حال الدعاء وبطونهما إلى الأرض، وقيل إلى السماء، وورد أنه بعد الدعاء يضع يديه على وجهه ويمسحه بهما لكن من غير تقبيل).
وأما مسح غير الوجه كالصدر، فلا يُسَنّ مسحه قطعا. بل نص جماعة على كراهته. وأما مسح الوجه عقب الدعاء خارج الصلاة، فقال العز ابن عبد السلام بعد نهيه عنه: ” لا يفعله إلا جاهل! “؛ والأولى المسح ببطون الأكف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: { إِذَا دَعَوْتَ اللهَ فَادْعُ بِبُطُونِ كَفَّيْكَ، وَلاَ تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ}. الحديث رواه أبو داود وابن ماجه.
وفي الفتاوى الكبرى لابن تيمية 2/219 قوله: ” وَأَمَّا رَفْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، فَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا مَسْحُ وَجْهِهِ بِيَدَيْهِ فَلَيْسَ عَنْهُ فِيهِ إِلاَّ حَدِيثٌ أَوْ حَدِيثَانِ لاَ يَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ، والله أعلم “) اه.
وبالجملة، فقد استدل الجماهير على مشروعية المسح بالحديثين الواردين في مشروعية المسح، الأول قول عمر رضي الله عنه، وقد ذكرته، والثاني: ( حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا بن لهيعة عن حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه ) اه، فهما وإن كانا ضعيفين، فيتقوَّيان بفعل بعض الصحابة والصلحاء،
ولأن الحديث الضعيف يُعمَل به في فضائل الأعمال كما هو مقرر عند أهل العلم..
فمن آثار الصحابة والأئمة، فقد روى البخاري في الأدب المفرد ص 214: (حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح قال أخبرني أبي عن أبي نعيم وهو وهب قال رأيت بن عمر وبن الزبير يدعوان يديران بالراحتين على الوجه ) اه.
وفي مصنف عبد الرزاق 2/252: ( باب مسح الرجل وجهه بيده إذا دعا : عن بن جريج عن يحيى بن سعيد : أن بن عمر كان يبسط يديه مع العاص، وذكروا أن من مضى كانوا يدعون ثم يردون أيديهم على وجوههم ليردوا الدعاء والبركة).
قال عبد الرزاق: ” رأيت أنا معمرا يدعو بيديه عند صدره ثم يرد يديه فيمسح وجهه” اه.
وأختم القول بنصيحة أخوية وطرفة استرواحية للمنبرين للدعوة بالتسلح بالعلم الرصين والإحاطة الشمولية بالموضوع المُزْمَع الجزم فيه قبل نُصح الناس وخندقتهم إلزاما في حديث وخانة معينة من باب التضييق عليهم دون إعمال النظر في الأحاديث الأخرى التي تبدو لأنصاف العويلميين متعارضة وهم خالو الوفاض من آليات الفهم والعلوم الشرعية الكفيلة بالمساعدة على الإيضاح والتوضيح، وأما طرفة الجهل المطبق، فهي متداولة عند الناس والعهدة على راويها: من أن أستاذا حضر خطبة الجمعة، وسمع كلاما غريبا فيها استرعاه للتواصل مع المتكلم لأجل الاستفسار مفادها سؤال الخطيب عنهما إدراجا في خطبته التي أقحمهما فيها قائلا: ” أيها الإخوة الأكارم ليكن في علمكم أن الزٌَنَاعِمَ والرَّبَاطِمَ قد استشريا في مجتمعنا، وعلينا مقاومة آفاتهما الخطيرة…”، فسأله عن المفردتين الغريبتين، فقال له: لقد قمت بنقلهما من خطبة قديمة غير مشكولة، فقال له الأستاذ: أرنيها، فلما ناوله إياها اكتشف بأن الخطيب ليس له نصيب لغوي ونحوي يمكِّنه من الشكل الصحيح للمفردتين المستشكلتين، إذ الصواب القول: ” الزِّنَا عَمَّ والرِّبَا طَمَّ ” ليكتمل المعنى، وحتى لا نثير حفيظة الخطباء تنكيتا عليهم، فإن الحاصل ولئن كان مبالغا فيه، فاللغة العربية الآن تصطرخ بين ذويها ضربا في هيكلها العظمي ممن هم على مستوى الفهم ولا يدرون الفعل من الاسم. لذا أوصي الجميع وخاصة أصحاب اللحى وما فوق الكعب في النار والقلنسوات والعمامات والكحل والسواك والمسك بالتفقه في الدين، والإلمام بعلوم الآلة كالنحو والبلاغة، ومزاحمة الشيوخ لأخذ العلوم الشرعية مخللة بعلم القراءات..
وإلا سيفتنون العامة وسيفتونهم بغير علم نقلا لرأي قرؤوه دون روية أو سمعوه من وسائل التواصل الاجتماعي. وقديما قالوا:
وكل من لم يقرأ بشيخه
يتبعه الجهل حتى يُعميه.
وبهذه الطرفة المذيلة بتلكم النصيحة وجب الإعلام وعلى الكل تمام السلام.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.