ثقافة وفن

الاحتفالية تحتفي بالمدرسة والمدرسة تحتفي بالاحتفالية

بقلم: عبد الكريم برشيد.

فاتحة الكلام

احتفاء باليوم الوطني للمسرح تنظم المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بمدينة الجديدة ندوة فكرية في موضوع ( الاحتفالية في المسرح المدرسي) وذلك يوم الجمعة القادم 23 ماي، وتساهم في هذه الندوة نخبة من الفاعلين في مجالي المسرح والتربية، وبهذا يستعيد المسرح المغربي دوره التعليمي والتربوي في صناعة الإنسان بالمسرح، وتجديد المسرح المغربي بالإنسان المغربي الجديد و المجدد
والاحتفالية، قبل ان تكون تيارا مسرحيا مغربيا و عربيا، فهي اساسا ثقافتنا، وهي حياتنا، وهي وجودنا، وهي نظام وجودنا، وهي أسىئلتنا التي تحتاج لأن نطرحها، وان نعيد طرحها في كل حين، وان نجيب عليها
و بمثل هذه الندوة العالمة إذن، و بغيرها ايضا، يمكن ان نعيد للمسرح المغربي حقيقته، وأن نعيد له دوره في التاريخ، وان تجعله يراهن على الثوابت قبل المتغيرات، وعلى ما هو اساسي رأوخيوي ومحوري، وان نؤكد ايضا على دور المدرسة في ايجاد جيل جديد من المسرحيين الشباب، ومن دارسي المسرح ومن جمهور المسرح ومن مهندسي المسرح المغربي المستقبلي، وبهذا يمكن ان نعيد لهذا المسرحي المغربي والعربي زمنه الحقيقي، الهارب و المهرب، وان نعيد له ثقافته ولغاته و روحه و مناخه و طقسه، وان تجعله جزء حيويا واساسيا من ثقافة مغربية ومن حضارة مغربية عريقة
وهكذا يكون الاحتفاء بالمسرح، اي من خلال الاحتفاء بالانسان، ومن خلال الاحتفاء بالعلم، ومن خلال الاحتفاء بالمعرفة ومن خلال الاحتفاء بصناع المسقبل الآتي، والذين بمثلهم تلاميذ اليوم، والذين هم فنانو ومثقفو وعلماء الغد
تحياتي لكل الأسماء الكبيرة في هذه الندوة، والتي سوف تساهم بمداخلات فكرية علمية رصينة، ومن زوايا متعددة متكاملة، والتي ستكون بها اضافات تغني البحث العلمي والجمالي والفكري في هذه الاحتفالية التي هي مسرحنا المغربي والعربي، والذي له جذور في ارضية وفي تربة الثقافة المغربية، العربية والامازيغية والأفريقية و الموريسكية الغنية
ويبقى ان تتساءل، بأية عين يمكن أن نرى اليوم مسرحنا المغربي والعربي؟
واي الألوان هو لون هذا المسرح؟
لون التفاؤل المفتوح ام لون التشاؤم المغلق؟
پؤسفني ان اقول بان لونه هو اللون الرمادي المركب، مما يعني بانه ليس ابيض تماما، وليس اسود بشكل كامل، وهو بهذا بين بين، وهو وسط بين الحياة والموت وهو وسط بين الحضور و الغياب، وهو وسط بين الإبداعية و الاتباعية، وهو وسط بين ان يكون نشاطا يوميا متجددا، وبين ان يكون نشاطا موسميا، وان يحضر يوما واحدا في السنة، وان يغيب في سائر كل الأيام الأخرى، وان يكون بذلك مجرد نشاط بروتوكولي، له شكل خارجي ولكن ليس له اي روح باطني حقيقي
نحو مسرح يبدع ويمنع وييسر ويدهش:
في (الرحلة البرشيدية) والتي هي رحلة افتراضية في عالم افتراضي، يقدم رجل في زي غريب نفسه على انه هو التاريخ، مجسدا في جسده، ومشخصنا في شخصه، وفي مقام معنى المسرح، يأتي التقديم عبر الكلمة التعريفية التالية لهر:
هو ( حياة الأحياء وهو مسلك السالكين، وهو علم العارفين، وهو أسئلة السائلين، وهو جهاد المجاهدين، وهو حيرة الحائرين )
وإنني انا الاحتفالي، وفي هذا البدء الجديد من هذه الكتابة الجديدة، أقر وأعترف بما يلي:
أعترف بأنني في مسرحي لست عالما ولا حكيما ولا ساحرا ولا عرافا ولا متنبئا، وهذا لا يمنعني من أن أقول بأنني مفتون بالسحر الحلال وبالمعرفة الساحرة والمدهشة و المستفزة و المشاكسة والمشاغبة.
وأعترف بأنني ضعيف أمام الكلمة الشعرية الساحرة، وأمام الأفعال الخارقة، وأمام الصور المدهشة، وأمام الحركات التي تعيد ترتيب المعاني والأشياء في الطبيعة وفي الواقع وفي التاريخ، وفي الفن والفكر، وفي العلم والصناعة، وإنني لا أبحث في يقظتي و منامي إلا عن سر إعجاز هذا السحر المدهش، وهذا من حقي، ومن واجبي ايضا
إنني أبحث عن السحر في عالم ضيع روح السحر؛ سحر الحرف ويحر الكلمة وسحر العبارة، وأبحث عنه في المكان وفي اللامكان أيضا، و أبحث عنه في الزمان وخارج كل الأزمان، و أعرف أن السحر الحقيقي لا يأتي إلا من بعيد جدا، وأنه يظل دوما ذلك الشيء الغامض و الملتبس و الشفاف و الماكر و الزئبقي واللا محدد الملامح، والذي لا يراه الراءون إلا من بعيد، وأعرف أنه لا سحر إلا في الغربة والتغريب، وأنه لا شيء جديد إلا في عيون الغرباء، وأغرب كل الغرباء هو من يأتينا من بعيد جدا، أي من المكان الذي لا نعرفه، ومن الزمن الذي لا ندريه، وبذلك كانت الشخصيات الأسطورية هي الأقرب إلى الأدب والفن، لأنها الأقرب إلى روح الإبداع السحري، و لأنها تظل شخصيات غريبة وعجيبة، ولأنها مثيرة ومدهشة، و لأنها لا تاتي مثلنا من الطبيعة، ولكن تاتي من عالم فوق الطبيعة ومن عالم ما فوق الواقع ومن عالم ما فوق التاريخ أو خارج التاريخ.
ونعرف أن من طبيعة الشيء العادي أنه لا يحرك فينا إلا الإحساس العادي، وليس هذا هو مطلبي في الفن والأدب، وفي الفكر والمسرح، و أعرف أن الأفكار الملساء و المسطحة لا تنفذ إلى العقل، ولا تصل إلى القلب والروح، وعليه، فإن كل سؤال لا يستفزني، ولا يحرجني،. ولا بهزني ولا يتحداني، ولا يخلخل مفاهيمي، لا أعول عليه، ولا أعرفه ولا أعترف به
إن الفن هو التحدي وهو التصدي وهو المغايرة و التغيير، والأساس في شخص الفنان أن يكون مكتشفا، وأن يكون مبتكرا، وأن يكون صانعا، وأن يكون مهندسا مؤسسا، وأن يكون مسافرا ورسولا ومتنبئا، وأعرف أن فعل الاكتشاف يبدأ من درجة الإحساس بالغرابة، فما يسحرنا ويبهرنا ويستفزنا هو وحده الذي يؤسس فينا الأسئلة الحقيقية والمؤسسة، وهو الذي يدفعنا لأن نكتشف الأسرار الخفية في الوجود وفي الأشياء الغامضة والساحرة، وان نعيد اكتشافها بشكل دائم وتواصل ومتجدد، و أظل مقتنعا دائما بان اصدق الكتابات هي التي لم اكتبها بعد، وان اخطر الأفكار هي لم افكر فيها بعد، وان الآتي من الأيام ومن الاحلام ومن الإبداع هو الأجمل و الأكمل دائما، وهذا هو ما يجعلني لا أتوقف عن فعل الكتابة، و يجعلني في بحث دائم عن مسرحي الذي يشبهني واشبهه و يعرفني واعترف به
المسرح مؤسسة علمية وتربوبة:
إن وجود الشيء في غير موضعه، ووجود الكلمة في غير موضعها، ووجود الموقف في غير سياقه، ووجود الفعل في غير زمانه، هو ما يؤسس الغرابة السحرية التي ابحث عنها، سواء في الأدب أو الفن، أو في الفكر أو الصناعة، وهذا ما يفسر أن تكون في الغرب الأوروبي غرابة شرقية، وأن تكون في الشرق الأسيوي غرابة غربية واوربية، وأن يكون الشرق موطنا للوحي والأنبياء، وأن يكون الغرب موطنا للفلاسفة والعلماء، وأن يكون الطريق بينهما طريقا للحرير و للتوابل و للحكايات و الأساطير والخرافات الغريبة و العجيبة، وأن يكون السحر موجودا عند ذلك الآخر الغريب والبعيد دائما، ولهذا فقد ارتضيت لنفسي أن أكون غريبا في أرضي وفي موطني وبين اهلي وناسي، وأن أكون مختلفا ومخالفا، في فكري ومسرحي، وفي أن أكون شاعرا بين العلماء، وأن أكون مجنونا بين العقلاء، وأن أكون عاقلا عند المجانين، وأن أكون حداثيا عند المحافظين، وأن أكون محافظا عند الحداثيين، وأن أكون يمينيا عند اليساريين ويساريا عند اليمينيين، وأن أكون غربيا في الشرق وشرقيا في الغرب، وأن أكون بهذا عصيا على الفهم وعلى التصنيف، وعصيا ايضا على التوصيف و التصفيف والتصنيف، وأن يكون كل ما أكتبه أكبر من أحكام النقاد، وأن يكون أخطر من الانطباعات العابرة لكثير من المتفرجين ومن شهود الزور ومن المشاهدين العابرين.
وأعرف أنني كائن يمشي في عالم يمشي، وبأنني مواطن حر في أوطان ينبغي أن تكون حرة، وأعرف بأنه لا يمكن أن يكون لحريتي أي معنى، إذا لم يكن بإمكاني أن أكون حيث أشاء، وأن أكون من أريد، وان اكون ايضا مع من أريد، وفي الجهة التي أريد، أما أن أكون يمينيا فقط، او يساريا فقط، وأن أكون هنا فقط، في عالم فيه الهنا وفيه الهناك، وفيه اليمين وفيه اليسار، وفيه الشمال وفيه الجنوب، وفيه الأعلى وفيه الأسفل، وفيه الأمام وفيه الخلف، وفيه الأعلى و فيه الأسفل، فإن هذا هو منتهى الغباء بكل تأكيد، وهو منتهى التضييق على حرية الذات، وعلى حرية الفكر، وفي مثل هذا الفعل إفقار لغنى الوجود وغنى الموجودات، وفيه اختزال للأماكن والجهات، وفيه مصادرة للأرواح الكبيرة في أن تكون أكبر من المسافات ومن الحسابات السياسية والقبلية والحزبية والشعوبية والطائفية والفئوية الضيقة.
إن من حقي أن أكون الجسد المتمدد في كل الاتجاهات، وأن أكون الواحد المتعدد بالأعمار وبالحالات وبالمواقف وبالمقامات المتجددة، وكل هذا من غير أن أخون هويتي الوجودية، وان أكون أنا غير أنا، ومن غير أن أنسى الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنني مهما ارتفعت وحلقت في السماوات العالية، ومهما تغربت في البلدان والأوطان، ومهما غيرت الأزياء واللغات، فإنني في النهاية لابد أن أعود إلى نقطة البدء ونقطة الانطلاق، والتي هي هذه الأرض التي أنبتتي، وجعلت أغصاني ترتفع إلى الأعلى، وجعلت عروقي مرتبطة بتربة هذه الأرض، ويسعدني أن أحلق في سماء كل الثقافات، ولكن انطلاقا من أرض ثقافتي أو من ثقافة أرضي، وبغير هذا فإنني سأضيع، و أضيع قرائي معي، ولقد دخلت عالم هذا المسرح، معتقدا أنه فن من الفنون، فإذا هو كل العالم، وإذا هو كل الدنيا وهو كل التاريخ وهو كل البشرية
ولقد اقتنعت أيضا بأن هذا المسرح هو ( أساسا مؤسسة، ومن مهام هذه المؤسسة أنها تعلم، وأنها تربي، وأنها تهذب، وأنها تطهر ( الكثارسيس) وأنه لذلك ينبغي أن تساهم اليوم ـ كما ساهمت بالأمس ـ في صناعة الإنسان الجديد في هذا المغرب الجديد، وفي هذا العالم الجديد وفي هذا التاريخ الجديد، وأن تحقق له شيئا من الأمن الثقافي، وأن تحمي هويته، وأن تصون وجوده، وأن تجدد لغته، وأن تظهر ثقافته وقيمه الحضارية التي هي عنوانه في هذا الوجود، وأن تربطه ـ في المقابل ـ بثقافته وبلغته وبتراثه وبأعياده وبزمنه وبعصره وبمحيطه الذي هو جزء أساسي وحيوي منه، وحتى تلعب الثقافة المسرحية المغربية دورها الحقيقي، فإن على الدولة أن يكون لها سياسة ثقافية واضحة، وأن تدرك بأنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، وأن التنمية الاقتصادية بدون تنمية العقل والنفس والروح والوجدان لا معنى لها، وهذا هو الدور الذي قام به المسرح في الحضارات الإنسانية عبر التاريخ ) هكذا تحدث الاحتفالي في كلمة له باليوم العالمي للمسرح، في سنة لم اعد اذكرها، وهكذا شدد على الدور الحقيقي والتاريخي للمسرح، والذي لايمكن ان يكون مجرد احتفال بروتوكولي عابر في هذا الزمان التاريخي العابر
مدرسة المسرح هي مدرسة الحياة:
نعم، نحن الأحياء نتعلم في الحياة، ونتعلم في المسرح، وهذه هي قناعتنا في الاحتفالية، ونحن نؤكد دائما على أنه (في المسرح نتعلم أن نكون مدنيين، وأن نكون اجتماعيين، وأن نكون مواطنين، وأن نكون ديمقراطيين، وأن نكون محتفلين ومعيدين مع الآخرين، وأن نكون شاهدين ومشاهدين، وأن نتعامل مع ما نراه وما نحياه بحس نقدي، وألا نقبل إلا ما يقبله العقل والمنطق، وأن نكون جريئين في مواجهة الظلم و القهر وفي الكشف عن الأعطاب و الاختلالات النفسية والاجتماعية والسياسية) بهذه الكلمة نطق الاحتفالي في كتابه ( الرحلة البرشيدية)
وهذا المسرح الاحتفالي، كما رأيناه، أو كما أرادنا أن نراه، لا يمكن فهمه إلا بفهم السياق الذي ساقه، وبفهم المناخ الثقافي والفكري والجمالي والأخلاقي الذي نشأ فيه. ومن أجل فهم حقيقي لهذه الظاهرة الاحتفالية، فإنه لا مجال لتمثلها بشكل متكامل، إلا في إطارها التاريخي، وداخل سياقاتها الفكرية والجمالية والسياسية التي ساقتها.
لقد ظهرت هذه الاحتفالية في أواسط السبعينيات من القرن الماضي. وكان ذلك في أعقاب النكسة الحزيرانية لسنة 1967، ولهذا فقد كانت ثورة فكرية قبل كل شيء؛ هي ثورة أملتها هزة وجدانية وفكرية وأخلاقية، هزة تاريخية قوية و عنيفة، وهي مرة أيضا مرارة الهزيمة، وذلك قبل أن تكون لعبا بالأشكال وبالألوان وبالأضواء و بالأزياء و بالأقنعة المسرحية، أو ان تكون مجرد محاولة عبثية للبحث عن التميز وعن التفرد، ولم يكن ممكنا بالنسبة لهذه الاحتفالية الغاضبة، في ذلك الزمن الغاضب، ان تكون هادئة، وان تكون مهادنة، وان تكون فرجة ضاحكة على مأساة إنسانية حقيقية، ولم يكن ممكنا لها ان تميز بين الحاضر والماضي، ولم تقطع الطريق بين النحن والآخر، ولم تتخذ من الأشكال الاحتفالية الشعبية دليلا على وجود المسرح العربي في الماضي، كما فعلت كثير من التجارب المسرحية في المشرق العربي، والتي كانت مفتونة بالماضي، و بعظمة ذلك الماضي التاريخي الذي كان، والتي اكتفت بتذكره وباسترجاعه شكليا، و بمسرحته فقط
وبخلاف ذلك، فقد ركز المسرح الاحتفالي المغربي على الحوار قبل كل شيء؛ اي حوار الحضارات، و حوار اللغات، و حوار الأجناس الأدبية والفنية، و حوار الأفكار، و حوار الأمكنة و الأزمنة، وبهذا فقد كان التيار الاحتفالي أكثر عمقا، وكان أكثر شمولية، وكان أكثر انغراسا في اللحظة التاريخية المتحركة، وكان أكثر قربا من الفن ومن الحياة معا، وكان أكثر قربا من الحقول المعرفية المختلفة والمتنوعة، والتي جعلها أساسا لفلسفته وفكره، ولإبداعاته المجددة والمتجددة، سواء في الكتابة النظرية أو في الكتابة الدرامية أو في الإخراج أو في التمثيل أو في تأثيث الفضاء المسرحي و في ترتيب البيت المسرحي وفي ترتيب الزمن المسرحي
هذا المسرح إذن هو الأصل، وهو أبو كل الفنون وكل العلوم، وهو بهذا فلسفة مصورة ومحكية، وهو فكر بلغة اليومي، وهو حوار بأصوات متعددة، وهو حضور في الموعد الاحتفالي المحدد، وهو فعل وفاعلية وانفعال وتفاعل و(هذا المسرح الأب، له بوابة كبيرة مفتوحة على الحياة والأحياء، وعلى الواقع والتاريخ، وعلى الحق والحقيقة، وعلى الجمال والكمال، وعلى الفعل والانفعال والتفاعل، وعلى المدينة والمدنية، وعلى الكائن والممكن، وعلى المحسوس والمتخيل، وعلى الخرافي والأسطوري، ومن هذه البوابة ندخل جميعا إلى ذواتنا الفردية و الجماعية، ومنها وبها وفيها نعيد اكتشاف أنفسنا، ونعيد اكتشاف العالم أيضا، وبهذا المسرح نتعلم كيف نصبح مواطنين، ونتعلم كيف نفكر بشكل سليم ومنطقي، ونتعلم كيف نتحرر بالتفكير الحر، ونتعلم كيف نلتقي مع الآخرين في الفضاء العام، ونتعلم كيف نقتسم معهم اللحظة الاحتفالية الحية، وكيف نقتسم معهم الحالة الشعورية الجميلة والنبيلة، وكيف نقتسم معهم أسئلة القضايا العامة و المشتركة، وبهذا المسرح نكون اجتماعيين أيضا؛ نؤمن بالجوار والتساكن، ونكون ديمقراطيين، ونؤمن بالحق في التعدد والاختلاف، وبغير هذا، فإنه لا معنى لهذا الذي نسميه المسرح، وإذا لم يستطع هذا المسرح أن يعلم، وأن يهذب، وأن يربي، وأن يجعلنا متسامحين، فبالتأكيد هناك خلل ما، وينبغي أن نسميه بأي اسم آخر غير اسم المسرح) من كلمة المسرحي الاحتفالي في يوم من ايام الاحتفاء بالمسرح و المسرحيين على المستوى الوطني المغربي.
الاحتفالية مسرح مختلف في ثقافة مختلفة:
وعندما نتحدث اليوم عن الاحتفالية، فإننا نجد أن المسرح يشكل عمودها الفقري، وتمثل الإبداعات المسرحية ـ كتابة وإنجازا ـ أهم وأخطر تجليات هذه الاحتفالية، ولهذا المسرح الاحتفالي طبيعته الخاصة، وله بصماته المميزة، وله إضافاته المعرفية والجمالية والأخلاقية، تماما كما له كتابته الدرامية الجديدة والمتجددة، ولهذه الكتابة شكلها ومضمونها، ولها فنياتها وتقنياتها، ولها شكلها الجمالي وعمقها الفكري والفلسفي، ولها حسها الواقعي وحدسها الصوفي، ولها شخصياتها التي يتقاطع فيها التاريخ والواقع، ويتحاور فيها المحسوس والمتخيل، ويتعايش فيها الكائن والممكن والمحال، ولها لغتها الإبداعية المميزة، والتي هي لغة شعرية أو شاعرية، ولها أحداثها الغريبة والعجيبة، والتي لا تكرر الواقع، ولكنها تعيد صياغته وتركيبه بشكل آخر مختلف، وهي أحداث مفتوحة على كل الاحتمالات، وعلى كل المفاجآت، وهي منسابة ومتدفقة في حركيتها الدائمة، تماما كما هو الماء والهواء، وهي بهذا لا يمكن أن تقف عند أي حد معين، ولا يمكن أن تنتهي نهاية مغلقة، و لهذه الكتابات المسرحية أيضا، عناوينها المثيرة و المدهشة و المستفزة، ولها فضاءاتها السحرية، ولها أجواؤها العيدية والاحتفالية والطقوسية الغنية والباذخة، ولها أسئلتها الجريئة والحارقة، ولها مسائلها الوجودية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفلسفية الكونية. ولها موافقها الفكرية والسياسية التي لا تقبل المساومة ولا المقايضة
وهذا المسرح الاحتفالي أيضا، له إخراجه المختلف والمغاير، والذي يقوم على أساس من الشمولية والتكامل، وعلى أساس الحوار الداخلي بين الأجناس الأدبية والفنية، وبين الحقول المعرفية المتعايشة، وبين كل الصناعات المختلفة والمتنوعة، وكل ذلك، من أجل إحياء لحظة مسرحية شاملة وغنية؛ لحظة عيدية تمتاز بغناها الجواني والبراني معا، ابتداء من غنى متخيلها، ومن غناها الفكري، وانتهاء إلى غنى أصواتها، وغنى أضوائها، وغنى أشكالها، وغنى ألوانها، وغنى ظلالها، وغنى حركاتها، وغنى أزيائها، وغنى كلماتها وعباراتها، وغنى التعبيرات الجسدية والروحية فيها، وفي هذا الإخراج الاحتفالي يتم كل شيء على المكشوف، وتكون كل الحركات وكل السكنات وكل التعبيرات حية؛ ابتداء من الموسيقى الآنية، ومن الغناء الحي، ومن الأداء المباشر، والتي تتمرد كلها على التسجيلات الصوتية الخارجية، وانتهاء بتغيير الملابس، وبتبادل الأدوار أمام الجمهور، وذلك من غير الهروب إلى الكواليس، والتي ليس لها وجود في المسرحية الاحتفالية، تماما كما هو الشأن بالنسبة للستارات التي لا معنى لها في التلاقي الاحتفالي، وهو لحظة للكشف والمكاشفة، ولحظة للبوح الصادق، ولحظة للتعري الفكري والوجداني والروحي.أمام الذات وأمام الآخرين، وأمام التاريخ.
وفي هذا المسرح الاحتفالي أداء مسرحي لا نسميه تمثيلا، وذلك لأن التمثيل ـ في معناه المدرسي ـ لا يفيد الصدق المطلوب في التعييد المسرحي الحقيقي، ولهذا فقد كان ضروريا أن تكون للمسرح الاحتفالي (منهجيته) الخاصة، وأن يعتمد الأداء المسرحي في هذه المنهجية على الصدق، وعلى الشفافية، وعلى التلقائية، وعلى الانسيابية، وعلى الحيوية، وعلى اجتناب تكرار شخصيات الواقع، كما هي في الواقع، لأن المطلوب هو تركيب شخصيات جديدة، لواقع جديد، شخصيات تكون مهمتها أن تعيش في هذا الكون المسرحي الجديد، وذلك يشكل جديد، وبإحساس جديد، وبوعي جديد، وبمنطق جديد، وبفعل وانفعال جديدين أيضا.
ويمكن أن نبحث عن العناصر الاحتفالية في الأزياء أيضا، وفي الأكسسوارات التي تصبح لها وظائف جديدة، وفي الإضاءة، وفي الغناء، وفي الإنشاد الديني، وفي التراتيل الصوفية، وفي طبيعة المكان المسرحي، والذي لا تشترط الاحتفالية فيه أن يكون مسرحا، وأن يكون هذا المسرح بناية، وأن تكون لهذه البناية كل مقومات المسرح الإيطالي العمرانية والهندسية، لأن الأساس، في التلاقي الاحتفالي دائما، هو فعل الاحتفال، وهو الإنسان المحتفل، وهو الحالة الشعورية و الانفعالية و الوجدانية والروحية التي تصاحب هذا الاحتفال، وهو القضية العامة والمقتسمة التي يتضمنها، وهو المناخ العام الذي يلف كل المحتفلين، وهو السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يحيا فيه هذا الاحتفال المسرحي، وهو لحظته الآنية الحية، وهو ذاكرته الغنية بالحالات والمقامات وبالصور و المشاهد والمواقف والحوارات .
في هذا المسرح نبحث أساسا عن التناغم، وبغير هذا فإنه لا مجال لأن يصبح مسرح الوجود سيمفونية احتفالية بأصوات متعددة، وعن معنى هذه الموسيقى المؤسسة للبهجة والفرح، يقول الاحتفالي (هي صوت يكلم صوتا في دنيا الأصوات.. ) وهي بهذا شيء آخر، أكبر وأخطر من تلك الأصوات التي تنتجها آلات العزف، وقبل أن تكون صوت آلة من الآلات فهي (هي صوت الروح .. روح الكون) وفي الكلمة الشعرية موسيقى بغير آلة موسيقية، وفي الرقص إيقاع موسيقي بغير آلة موسيقية، وفي الطبيعة موسيقى بغير آلة موسيقية
ولعل أجمل وأنبل ما في هذه الموسيقى الكونية هو حوار الأصوات فيها، وهو تناغمها، وهو تكاملها، وهو أنها تتكلم لغة واحدة، والتي هي لغة الطبيعة الحية، وهي لغة الحياة الطبيعية، ولا شيء أبغض إلى الاحتفالي أكثر ( من النشاز، ومن فوضى الأصوات..) و(الموسيقى يا صاحبي هي روح الوجود، وهي روح كل الموجودات، وروح كل المخلوقات والمصنوعات.. هي لغتها الأولى بالتأكيد، والتي هي أفصح وأبلغ وأصدق كل اللغات الحية في هذا الكون الحي، وهي موجودة في الطبيعة وفي الكون، وهي موجودة في كلامي وصمتي، وفي حركتي وسكوني، وفي يقظتي وأحلامي، وفي خيالاتي وأحلامي، ومن يدري، فقد يكون في شخيري شيء من الموسيقى أيضا) وهكذا تحدث الاحتفالي في رحلته الافتراضية، وكانت رحلة البحث عن المعنى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى